مدد يا سيدنا الخضر الفلسطيني
"يا شعبنا الأبيّ، أبعث لكم هذه الوصية تحية ومحبة، وكلي ثقة برحمته تعالى، ونصره وتمكينه، هذه أرض الله ولنا فيها وعد منه إنه وعد الآخرة، لا تيأسوا فمهما فعل المحتلون، وتطاولوا في احتلالهم وظلمهم، وغيهم، فنصر الله قريب، ووعده لعباده بالنصر والتمكين أقرب. سلامي لسادتنا ذوي الشهداء، والأسرى، وتحياتي لهم وكل الأحرار والثوار".
عند فجر أمس صعدت روح شهيد معركة الأمعاء الخاوية في سجون الاحتلال، خضر عدنان، بعد نضال لم يتوقف منذ العام 2004 من أجل انتزاع حريته والعودة إلى صفوف المقاومين، غير أنّ إضرابه الأخير عن الطعام، والذي دام 86 يومًا انتهى باستشهاده، تاركًا وصيته، أو قل وثيقة إدانة لعالم بلا ضمير وأمة هي والعدم سواء.
يأتي نبأ استشهاد هذا "الخضر"، ونحن غارقون في عاراتنا القومية الممتدة من تونس إلى السودان، مستسلمين تمامًا لاحتلال حياتنا بالمعارك العبثية والاشتباك حول القضايا التافهة.
كلّ الأمة مستنزفة في اللهاث حول أخبار الاحتراب السوداني السوداني الذي تحترق معه الخرطوم والمدن السودانية في صراع بين خصمين يتنافسان على القربى من الكيان الصهيوني، ويتعاركان لمصلحة أطراف خارجية، حتى لو انتهى الأمر بفناء الشعب السوداني كلّه.
كلّ الإعلام العربي مكرّس لصراع الديوك في السودان، فيما يتراجع الاهتمام، المتراجع أصلًا، بالقضية الأم، فلسطين، التي يحتفل العدو بذكرى استعمارها والتهامها، فيما لا يتورّع بعضنا عن تبني مفرداته فيردّد معه "عيد الاستقلال" أو ذكرى "قيام دولة إسرائيل"، وليست ذكرى اغتصاب أرض فلسطين بتواطؤ من كلّ أوغاد العالم، في أجواء مريحة للغاية للاحتلال الذي يعيد ترتيب أوضاعه وينظم نفسه بعد زوبعة التظاهرات الداخلية، والتي لم تعدم هي الأخرى وجود معجبين عرب بأطياف منها.
يغادر "الخضر" تاركًا وصيته وإدانته لعجزنا، ليمنحنا وقتًا مستقطعًا من متابعة ملهاة فرنكنشتاين تونس المضطرب وهو يحرق الأخضر واليابس مما تبقى من معالم لثورة شعبية خالدة عبرت من هنا وحرّرت الناس من طغيان وفساد، ليرتد بها إلى أسوأ مما كان قبل عقدين.
تصعد روح الشهيد بينما مصر العربية الكبيرة مشتبكةٌ من شمالها إلى جنوبها في قضايا كونية كبرى من نوعية ضحكة الفتاتين التي اصطادتها كاميرا عابثة أثناء تصويرهما جنازة فنان محترم رحل، فتندلع الحوارات حول جلال الموت واحترام جنازات الراحلين، في مجتمع هو نفسه كان نصفه يرقص فرحًا على حرق جثث الآلاف من نصفه الآخر.
يعلن "الخضر" استشهاده بينما مجون التحضير لحفلات ما يسمّى "الحوار الوطني" يطغى على ما عداه في محاولة لإقامة نظام يوشك أن ينقضي بعد أن راح الفشل والعجز والطغيان يأكل منسأته، فيخرج إعلامه بحواديت عن المواطنين الأوغاد الذين يذبحون أبناءهم ويقتلون بعضهم بعضًا، ويعطلون جهود الحكومة في صناعة التقدّم والازدهار.
يرحل "الخضر" والأمة مشتبكة حول هتاف مواطن عربي حرّ من الكويت باسم فلسطين في وجه فوج صهيوني في مطار دبي، فيجد نفسه متهمًا من عرب مثله بالإرهاب وترويع الآمنين.
وحدها فلسطين "تعدّل المايلة" وترسل لنا مددًا روحيًا يوقظنا من طوفان الخواء والهراء الذي يجتاحنا ويحيل حياتنا إلى ما يشبه عروض المسرح التجاري المبتذل، فتأتي سطور وصية الخضر عدنان لتغسل آذاننا وأعيننا مما علق بها من عوادم القبح والرداءة، وتذكرنا بذاتنا التي اغتربنا عنها، وتعيد تعريف الأشياء، فتستعيد القيم والمعاني زخرفها الذي غيّبه طغيان العسكري المستبد، وسفسطة المثقّف الفاسد، وانبطاح السياسي البائس، وانتهازية شيوخ السلاطين، الذين سيتركون كلّ شيء، ويثرثرون بأنّ الموت جهادًا في ميدان معركة الأمعاء الخاوية هو فعل انتحار.
بل أنتم الذين تنتحرون وتنحرون كلّ معنى جميل.