محمد الجالوس .. وصولاً إلى الأقصر
طوال تجربته نحو أربعين عاما، وباستثناء بواكيره الأولى، يحضر التشكيلي الأردني، محمد الجالوس، في أطوارٍ تضمّ مشاريع عكفَ عليها، يجتمع فيها عديدٌ من لوحاته بخياراتٍ جماليةٍ تستنفر طاقته ومخيّلته، وفي كل مشروع رهاناتٌ فنيةٌ مغايرةٌ ما سبقها، تنعطفُ إليها إيقاعاتُ فرشاتِه وضرباتِه اللونية. ومع تتالي تجاريبه وتنويعات انتقالاته، المحض إبداعية، ومع تعدّد موضوعاته، يتبدّى أن مقادير ظاهرةً من القلق تقيم مع محمد الجالوس، تواكب أقمشة لوحاته، وسطوحاتها الخشنة والناعمة، وأخشابه وجداريّاته، وكذا ألوانه الداكنة والأخرى المشرقة. من تقليديّ الكلام أن يقال إن هذا قلق أي فنانٍ مثابرٍ، غير أن الأدقّ في شأن صديقنا القول إنها استغراقاتُه في حالاتٍ تلاحقه، لا يصير في وسعه أن يغادرها إلا بعد أن تفيض منه لوحاتٍ ولوحات. وقد قال مرّة إن لوحته لم توصله يوما إلى اليقين. وفي الأثناء، يأخُذه الانصراف إلى هذا المشروع، قبل أن يشغله آخر، إلى دأبٍ وتأمّلٍ كثيريْن، فضلا عن مطالعاتٍ وقراءاتٍ. ولكن يحدُث أن يقطع مكوثَه في هذه الفكرة أو تلك طارئٌ ملحٌّ يفاجئ مداركه، فيستجيب له، دفعا لشحنةٍ ما غشيت حشاياه. ولعل من هذا القبيل رعشةٌ جعلته يخرُج عمّا يهيّئه، منذ شهور في مرسمه في حي الشميساني في عمّان، لمعرضٍ مشتركٍ مرتقبٍ في مارس/ آذار المقبل في الدوحة، ستحضُر فيه إفادةٌ من الخط العربي، لمّا أنجز لوحةً مفردةً من وحي شجاعة الأسرى الفلسطينيين الستة وفرادة بطولتهم عند هروبهم من سجن جلبوع الإسرائيلي في سبتمبر/ أيلول الماضي. لقد بدا أن نداءً غافلَ الجالوس فأدّاه، فكانت لوحة النفق الفوّهة، والفوّهات الصغرى التي تنطق بوعود الحرية والخلاص، فيما رخاوة جدار السجن تعبّر عنها خيوطٌ مما قد يكون حديدا أو غيره، واللونان الرمادي والأصفر غالبان، ويوحيان بما يوحيان به، فيما التموّجات في أسفل اللوحة كأنها تُحدّث الناظر إليها عن حريةٍ قادمة، لها أوتارها وأنغامها.
نداءٌ من صفةٍ أخرى، أسبقُ مما أجابته اللوحة الثرّية بالمغازي تلك، ألحّ عليه في زيارته مدينة الأقصر في صعيد مصر، مشاركا في سيمبوزيوم فيها قبل ستة أعوام، ثم عاد إليها في مناسبةٍ تشكيليةٍ أخرى، فسيطرت الطبيعة هناك على حواسّه، مساحاتٌ خلابةٌ وديعة، وساحرة، تشعّ بالدفء مع الأرض والشجر والبراح والسماء والفضاء، بعيدا عن الآثار والمعابد والفرعونيات، فأجاب النداءَ بإنجاز لوحات معرضه "سحر البرّ الغربي"، المستضاف في غاليري بيكاسو إيست في القاهرة منذ 9 يناير/ كانون الثاني الجاري إلى 30 منه، اجتهد فيها مُختبرا إمكاناته في استثارة ما يُشعل الإحساس بالمكان، وليس رسمه كما الفوتوغرافيا. قال إنه وقع في غرام الأقصر، وأعادته إلى بئر الحب العميقة. بدا احتفاليا بمشهديةٍ لونيةٍ مُغوية، مدفوعا بحبٍّ ظاهر، ليلقى الناظرُ في اللوحات، ولو عن بعدٍ كما حال صاحب هذه الكلمات، حميميةً تُدهشه، تريحُه بتعبير أبسط، بل ربما تودِع المتأمل فيها، المتجوّل في برّيتها وفطريّتها، السرّ في المكان الذي تشخّصه.
لا يجد محمد الجالوس نفسَه رسّام مدن، وهو الذي استوحى لوحاتٍ، فيها إتقانُ عارفٍ بما يصنع، مما رآه في الفحيص (1991) والسلط في الأردن، والقدس ونابلس في فلسطين (2008)، ولا يَعرف أي مدينةٍ سينجذب مزاجُه إليها بعد الأقصر. وإذا كان قد أنجز إبداعاته هذه بعد مشاهدات، فإن لوحاته في معرضه "أبواب 48" (2019)، كانت مضاءةً بمعايشة انتماءٍ ووجدانٍ واستذكار، فبدت، بألوانٍ داكنةٍ غالبةٍ فيها، بخشونةٍ ظاهرةٍ على سطوحها، وباجتماع النافر والمنبسط والصلد والرخو فيها، وبحضور أقفال ومسامير وألواح خشب، وبالذي تُظهره مما خلف الأبواب من معيش البيت، بدت كأنها تحمي انتسابا إلى مكانٍ من النسيان. كأنها، بتعبيرٍ أقلّ توريةً، مقطعٌ من ذاكرةٍ فلسطينيةٍ في واحدةٍ من مطارح تغريبتها المديدة، ومحمد الجالوس (مواليد 1960) من جيلٍ تالٍ لبدايتها.
تلك الأبواب قبل لوحات الأقصر، موصولةٌ كما أعماله في "مقامات جسد" قبلهما، وكذا المرتقب بعدهما، ببحث محمد الجالوس الطويل والشاقّ في الجمال وعنه، الجمال المكترث دائما بالفكرة، بالمُرسَلة، بالإنسان وحرّيته، بالفلسطيني وقضيته، بالفنان وقلقه. وموصولةٌ بكل ما أنجز منذ أولى معارضه في عمّان قبل 40 عاما، مرورا باختيار متحف الصين الوطني في بكين، قبل أزيد من عامين، جداريةً له من بين 25 لوحة عدة دول، مع ست أخريات صنّفت ضمن الصف الأول، وقد صاغها الجالوس بتركيبيةٍ تؤالف بين مراحل من التاريخ، لتعكس رؤيته إلى طريق الحرير. أقول إن لوحات الجالوس التي شوهدت في معارض في مشارق ومغارب عديدة مثقلةٌ بغزيرٍ من الأسئلة والمعاني .. وبالجمال من قبل ومن بعد.