محاكمة تاريخية!

26 يوليو 2022

(حسن فتّاح)

+ الخط -

بسبب عملي الصحافي، أتيحت لي الفرصة، أكثر من مرّة، لحضور جلسات محاكمة صدّام حسين وأعوانه التي جرت ما بين 19 أكتوبر/ تشرين الأول 2005 و5 نوفمبر/ تشرين الثاني 2006، بل كنت أصادف، بين حين وآخر، في مصعد البناية المؤدّي إلى المحكمة، قضاة ومحامي دفاع وادعاء عام أداروا المحكمة، ولكن الفضول لم يكن قوياً لحضور هذه المحاكمة التي كان يُنظر إليها أنها "تاريخية". وكان شيء ما غريزي أو حدسي يدفعني إلى الإحساس بأنها عمل غير محكم، وأنه كان من المفروض أن تكون بشكل أفضل، وأن هذه المحاكمة أريد لها أن تكون سياسية، وليست قانونية، بل إنها ضمنياً صمّمت لإعادة إنتاج شعبوية لتيارات الإسلام السياسي "الشيعي" باعتبارها وارثة معنوياً لموقع "ضحايا نظام صدّام"، في اختزال شديد ومخلّ لصورة الضحايا الأكثر تعقيداً، والتي تشمل مكونات وجماعات وجهات عديدة بجوار الضحايا من المنتمين إلى الإسلام السياسي الشيعي، أو الذين اتهمتهم بذلك زوراً وبهتاناً الأجهزة القمعية لنظام صدّام.
ثم توالت الأيام لتثبت لي جانباً من صحّة حدسي؛ فها هي شخصياتٌ ظهرت في المحاكمة صارت تتاجر برصيدها "التلفزيوني" في سوق التكسّب السياسي، ودخل بعض قضاة ومحامي الادعاء في الانتخابات، ونشروا في الشوارع بوسترات ضخمة، هي صور مقتطعة من تصوير المحاكمة. إنهم يدعون الناس إلى انتخابهم استناداً الى رصيد معنوي لم ينتج إلا عن مصادفة لا أكثر قادتهم من هامش معتم إلى دائرة الضوء في محاكمة غير محكمة، أخرجت بشكل سيئ ومسيء أحياناً.
على الجانب الآخر، تكسّب بعض من طاقم الدفاع عن صدام ورجاله من المحاكمة من خلال نشر الكتب أو حتى الترشّح للرئاسة العراقية برصيد معنوي يرتكز على ما بثّ من تسجيلات للمحاكمة على شاشة التلفزيون، بل ترشّحت محامية من طاقم الدفاع للانتخابات اللبنانية أخيرا برصيد أنها كانت في دائرة الضوء في تلك المحاكمة، وليس لشيء آخر.
ربحت الأحزاب الإسلامية الحاكمة، من خلال تجهيز سيناريو المحاكمة وانتقاء القضايا التي بدأت بها وعرض شهادات الضحايا، في ترويج نفسها سياسياً. وفي الجانب الآخر كانت المحاكمة فرصة لصدّام نفسه للقيام بـ"الاستعراض الأخير" أمام الجماهير! هذا الاستعراض الذي انتهى مع لحظة درامية فائقة في مشهد تصوير الهاتف النقّال، قليل الجودة، لعملية إعدامه فجر الثلاثين من ديسمبر/ كانون الأول 2006.
منعت الرغبة بالتشفي والثأر التي سيطرت على تفكير النخبة السياسية الجديدة من تمرير المقطع الأخير من حياة صدّام بما يخدم المصالح العليا للشعب العراقي، ويخدم تطلعاته لبداية حقبة جديدة تدفن عهد الديكتاتورية بشكل لائق، وتؤسّس لشيء مضاد لها.
كان صدّام من أعتى المستبدّين في عصرنا الحالي، وكان من قام به من مغامرات عسكرية سبباً في دمار العراق وبوابة لخرابه وتخريب كل منجزات الحقب السابقة على عهد صدّام، وقذفاً للشعب العراقي باتجاه المجهول، ذلك الذي تجسّد لاحقاً بارتباك الأميركان عشية احتلالهم العراق وإسقاطهم نظام صدّام، وعدم معرفتهم بما يجب القيام به في الخطوة اللاحقة.
وبدل أن تتذكّر الأجيال الجديدة من العراقيين المحتوى العميق للتجربة الاستبدادية والإجرامية لنظام صدّام، بما يساعدها على تلمّس خطواتها بشكل صحيح في الحاضر والرؤية الواضحة لخطواتها في المستقبل، منحت المحاكمة البائسة وطريقة تنفيذ حكم الإعدام وإخراجها للجمهور صدّام أفضل مقطع من حياته يمكن أن يتركه في الذاكرة. وكان صدّام، على ما يبدو، واعياً أهمية هذه اللحظات الأخيرة من حياته، فاهتم كثيراً بإخراجها بما يناسب صورة البطل الشعبي. خصوصاً أن محاكمته وإعدامه كانا في أجواء تسيطر عليها قدرات عسكرية ولوجستية لقوة دولية عظمى، احتلت بلده من دون وجه حقّ، فكان هنا في هذه الثنائية في الطرف الأكثر أخلاقية، وهو ظهور أخلاقي لا يستحقه صدّام في الحقيقة، ويشوّش على الصورة الكليّة العميقة للمواقف الأخلاقية لصدّام استناداً إلى مسيرته الإجرامية. ولكن أحزاب العهد الجديد منحت هذا الظهور الأخلاقي لصدام بالمجّان وعلى طبق من ذهب. وحرمت الشعب العراقي من الحصول على نهاية لائقة لحقبة دموية عبثية، وجعلت النابهين والأذكياء منّا يشعرون بأننا لم نغلق باب الاستبداد والفساد والإجرام حقّاً، وانما استبدلنا الفاعلين السابقين بفاعلين لاحقين، وهو ما أثبته، للأسف، مسار الأحداث اللاحقة، فصار الشعب العراقي اليوم، بعد 19 سنة، يتمنّى، مدفوعاً بطاقة الإحباط واليأس، أن يرى محاكمة مماثلة لكلّ رموز السلطة الحالية.

أحمد سعداوي
أحمد سعداوي
كاتب وروائي عراقي