محافظو بريطانيا بلا تشرشل وتاتشر
يفتش البريطانيون كثيراً في التاريخ بحثاً عن نظائر للحاضر. بحنينٍ للأمجاد يفعلون ذلك أحياناً، ولهوسٍ بنماذج عظمة الماضي يُسقطون ما فات على ما يأتي أحياناً أخرى. حتى الإطارُ الدستوري في المملكة المتحدة فيه للتقاليد القانونية والسوابقِ القضائية مكانةٌ خاصة.
ينسحب هذا على الحياة السياسية. تجنح الصحافةُ كثيراً إلى مقارنات بين رؤساء الوزراء المتأخرين وآخرين سابقين. قادةُ السلطة التنفيذية، في مناسبات جمة، يحاولون استنطاق شخصيةٍ من التاريخ القريب والتلبّسَ بها. عادة يفشل الأمرُ، فهناك ما هو أكثر من الاقتران بأشخاصٍ تاريخيين. نهايةَ الشهر الماضي (سبتمبر/ أيلول)، حضرتُ إحدى فعاليات "مهرجان لندن للتدوين الصوتي - بودكسات"، وكانت للكاتب الصحافي والمذيع ستيف ريتشاردز بعنوان "جعْل إحساسِ عصر لِيز تراس مميزًا". ساخراً كان، كما هي طريقة جلّ المتحدثين في الفعاليات هذه الأيام. التاريخُ واستحضار نماذجه للمقارنة شاعا في الفعالية بقوة. كان متوقعاً أن يعرّج على ونستون تشرتشل، رمز الحنينُ البريطاني للتاريخ. إلى جانبه، ثلاثة رؤساء وزراء آخرون تاريخيون: هارولد ويلسون اليساري، مارغريت تاتشر المحافظة وتوني بلير العمّالي. ولأنّ المُحاضِر ذو ميول يسارية كان ويلسون نموذجَه للمقارنة بالقيادة الراهنة لحزب العمال. لم يتوقف كثيراً عند بلير الذي لم يكن يسارياً بالمعنى البريطاني الدقيق، بعدما أجرى تغييرات في رؤية حزبه قاربت اليمين. فضلاً عن ذلك، دفَعَ ثمنَ حرب العراق من رمزيته، رغم نجاحات سياساته الاقتصادية. مضى ريتشاردز في لعبة المقارنات هذه ساخرا من تمثيل رئيسة الحكومة الحالية لِيز تراس بنظيرتها القديمة مارغريت تاتشر.
سيدة المنزل رقم 10 في داونينغ ستريت مصرّةٌ على استلهامِها من المرأة الحديدية فعلَها السياسي، بل الإشاراتِ غيرَ السياسية، كما في صورتها على درّاجة نارية تشبُّهاً بواحدة مماثلة لرئيسة وزراء ثمانينيات القرن الماضي. الأجواء يسودها لغط؛ أولا، لأنها ليست لحظةً مناسبة لاستعادة تاتشر المعروفة بخصخصة كثيرٍ من البنى التحتية ومنشآتها، بينما تعاني بريطانيا الحالية، مع الأزمة الاقتصادية العالمية، مِن تبعات الخصخصة، تحديدا في قطاع الطاقة. إضافة إلى ذلك، تحتاج أيّ استعادةٍ لماض، على فرض إمكانيتها، أسبابا موضوعيةً كافية تفي بالتشابه، وهي غيرُ متوفرة مع الظروف الداخلية والدولية وما فيها من تحولات مختلفة عما قبل أربعة عقود، يوم كان الرئيس رونالد ريغان يكسب رهان الولايات المتحدة في الانتصار بالحرب الباردة.
لم يَظهر حزبُ المحافظين بعد اثنتي عشرة سنة من قيادته البلاد بصورته الجيدة حين بدأ مشواره مع ديفيد كاميرون عام 2010
تستدعي الاستعادةُ كذلك عوامل ذاتيةً لا يبدو أنها متوفّرة في شخصية تراس. رئيسةُ الوزراء التي تأخّر انطلاقُ عهدِها عمليا بسبب وفاة الملكة وما تلاها من استعدادات للجنازة، بدأتْه بقرار أثارَ الامتعاض والغضب فورا. تراس، بتخطيط من وزير ماليتها كواسي كوارتِنغ وربما بدعم من لوبيات مالية داخل حزبها، أصدرتْ حزمة من التغييرات الاقتصادية تضمنت تحديدا للضرائب كان سيستفيد منه الأغنياءُ وأصحابُ الدخل العالي، لولا أن تراجعتْ مقرّةً باستعجالها حين أحستْ بحجم الخسائر ومستوى الغضب ودلالاتِ تدخل بنك إنكلترا في الأسواق بسبب حزمتها. قالت جملةً سمعناها سابقا في دول من العالم الثالث: "إنني أفهم، لقد استمعتْ". قلّما كانت بداياتُ رؤساء الوزراء في المملكة المتحدة بهذا الارتجال. هي إشارةٌ غير موفقة أظهرتها رئيسةُ الحكومة ضمن فعاليات مؤتمر حزب المحافظين الذي عقد في برمنغهام وسط انكلترا.
في المؤتمر، لم يَظهر حزبُ المحافظين بعد اثنتي عشرة سنة من قيادته البلاد بصورته الجيدة حين بدأ مشواره مع ديفيد كاميرون عام 2010. شرَعت الصحافة البريطانية تكتب بقسوة عن خيبة "عدم فهم" الحزب الدروسَ أو التغييرَ في الظروف الداخلية والعالمية وإحساسَ الطبقات الفقيرة. غاب عن المؤتمر ريشي سوناك، المرشّحُ السابق لزعامة الحزب، وظهر صراع داخلي بين السيدتين تراس ورئيسةِ مجلس العموم بَني موردونت، وهي بدورها كانت مرشّحة لرئاسة الوزراء. بمعنى أن كتلةً داخل الحزب تشنّ، إلى جانب الصحافة والمعارضة، معركةً على زعيمته، رغم أنها بدأت للتو، ما يثير أسئلة بشأن عوامل وصولِها على حساب منافسٍ نجح اقتصاديا خلال فترة الوباء، بينما لم تشتهر هي إلا بتصريحِها المرتجل، حين كانت وزيرةً للخارجية، بأن السلطات لا تتدخل إن رغِب البريطانيون في القتال مع أوكرانيا ضد الغزو الروسي.
انخفاضُ الباوند ووصولُه إلى مستوياتٍ تقترب من الدولار الأميركي مثّلا ضربةً تاريخية موجعة أخرى، طغت على مؤتمر المحافظين
يكمن عدمُ الفهم في أن خيارات المحافظين، وهو الحزب الأكثرُ تاريخيةً والمعتادُ على سعة شعبيته، صارت أكثرَ استعجالا وقائمةً على رد الفعل بمواجهة ضغط الأزمات الراهنة، فبينما يصعد اليمين في أكثر من بلد أوروبي، يبدو أن يمين الإنكليز يعاني. انتهت فورةُ رغبةِ الخروج من الاتحاد الأوروبي، وتكوّنت في أجواء البلاد رغبةٌ جديدة لا تنسجم مع التوجّهات المحافظة التي سادت في انتخابات عام 2019 المبكّرة. الاستعجالُ تجلّى في قرارات الضرائب. عندما كانت المملكة تستعد جيدا لتوديع ملكتها، بدتْ الحكومة بعيدةً عن دراسة خطواتها بما يجعلها واثقةً وغيرَ قابلة للتراجع. انخفاضُ الباوند ووصولُه إلى مستوياتٍ تقترب من الدولار الأميركي مثّلا ضربةً تاريخية موجعة أخرى، طغت على مؤتمر المحافظين، وأثارت المخاوف اقتصاديا، لتصل بها إلى درجاتٍ أبعد مما تثيره أزمة أسعار الوقود. قضايا دفعتْ كبيرَ الخبراء الاقتصاديين في مجموعة يو بي أس المصرفية، بول دونوفان، إلى التحذير من أن المستثمرين صاروا ينظرون إلى حزب المحافظين كأنّه "عبادة يوم القيامة"، وهو تعبير Doomsday Cult عن رؤية مذاهب دينية أميركية ظهرت في ستينياتِ القرن الماضي وتعكزتْ على عقيدة نهاية العالم وتنبأتْ بالدمار الكوني الشامل.
مقابلَ مؤتمر المحافظين الفوضوي والصاخبِ والكاشفِ عن الانقسام، أبدى مؤتمرُ خصمِه حزبِ العمال في ليفربول، خلال سبتمبر / أيلول الماضي، استقراراً لم يعهده أخيراً. تراجع انقسام "العمال"، وقدّم زعيم الحزب، كِير ستارْمَر، مشاريعَ محدّدة، مثل فكرة تأسيس شركة للطاقة النظيفة تابعة للحكومة تأخذ على عاتقها تزويد الناس بالكهرباء والتدفئة. وسواء كان المشروعُ وبقيةُ ما طرح في المؤتمر واقعياً أم لم يكن، فإنه أشاع ارتياحا أو تطمينات.
خلال الأعوام الماضية، عانى العمالُ من خطابٍ بلا مشاريع داخلية محدّدة لزعيمهم السابق جيرمي كوربن، حين أظهر تركيزا غير مثمر على التوجهات الخارجية والمواقف الأخلاقية والأيديولوجية والسياسية من القضايا الدولية. في ظل ذلك، أثيرتْ الهواجس من توجهاتٍ ماركسيةٍ في بلاد لم تكره في تاريخها أيدولوجياً، بعد النازية، أكثرَ من اشتراكية السوفييت. أمر مفهوم، فكوربن ينحدر من خلفية أسرية يسارية عابرة للحدود، واتهمه بعض خصومه، بينهم الكاتب توم باور، بأنه تروتسكيٌّ معادٍ للسامية. وبين الحقائق والحملات التشويهية، واجه كوربن وحزبُه اضطرابا، سواء في ما يتعلق ببريكست أو بالثوابت البريطانية. في المحصلة، كان الرجل أقربَ إلى منظّر ومفكر منه إلى قائد حزبي. أما خليفته ستارمر فلم يبدُ جذّاباً في خطابه السياسي، إلّا أنّه يبلي حسناً في الأسابيع الأخيرة. هو يمثل، أو ربما يمثل، مرحلةً انتقالية تمسّ حياةَ طبقتين تعانيان راهناً، هما العمال والوسطى. الثانية كانت منقسمةً بين اليمين واليسار، وهذا لا يبدو الحالَ في المرحلة الحالية مع ترجيح كفةِ الحزب المعارض في استطلاعات الرأي الأخيرة، حيث أظهرت تقدمه بدرجات كبيرة في مزاج الجمهور.
استحقاقات داخلية لا يمكن التهرّبُ منها، منها أزمة قيادة وفقدان الثقة السياسية شعبياً والتضخّمُ ومواجهةُ الشتاء
من المفارقات أنّ المحافظين في خطابهم يركّزون على العامل الخارجي أكثر مما هو معهود. قد يفهم الأمرُ محاولةً أخرى لاستعادة التاريخ. رئيسة الوزراء الأسبق، تاتشر، استفادتْ كثيراً من تدخلها عسكرياً في جزر فوكلاند ضد الأرجنتين عام 1982، لتقفز على إخفاقاتها الداخلية وعمقِ الانقسام بسبب الاقتصاد، وتستقطب شعبيةً حاسمة. حاول جونسون في الحرب الأوكرانية تكرار الأمرِ، ودفع باتجاه إشاعةِ أن بريطانيا أمام تهديد خارجي تحتاج اتحاداً داخلياً يعلو على الخلافات، لكنّه فشِل ولم يستطع اجتياز العقبة. تراس هي الأخرى ركّزتْ اهتمامَها على النجاح في مواجهة بوتين، ثم فوجئت بأن الأمر مختلفٌ عن ذهاب تاتشر إلى حرب الجزر في المحيط الأطلسي.
يزداد إخفاق استثمار السياسات الخارجية جلاءً في مقابلات برنامج الأسئلة على قناة بي بي سي، أجراها المحاور الشهير بيرس مورغان، بعد مؤتمر المحافظين. واحدةٌ منها كانت مع وزير المالية السابق ناظم زهاوي. سأله المحاورُ مورغان إنْ كان سيعتذر، كأحد قادة المحافظين، عن اضطراب السوق، فجاء الجواب صادما ومثيرا للسخرية والتسفيه لدى الجمهور الحاضر، هرَب إلى الحديث عن بوتين وما تسبب به من أزمات في الطاقة. قاطعه مورغان بأن ما يقوله هروبٌ، وأن سؤاله بسيط "هل ستعتذر أم لا؟". اعتذر بالطبع، لكن اللقاء عبّر عن أن المحافظين في هذه المرحلة يفقدون المهارة، بما في ذلك قدرتهم على استخدام الأزمات الخارجية في المعركة الداخلية. بدأ خصمُهم حزب العمال منذ ثلاثة أعوام يتراجع عن لعبة استخدام الملفات الخارجية في أزماتٍ تحتاج قبل كل شيء إلى إجراءات حاسمة تغيّر الواقعَ، وليس مقولات تنتمي إلى زمن تشرشل الذي هُزم في انتخابات عام 1945 بعد أن انتهت مهمته، واختار البريطانيون بديلاً عنه يومَ وضعت الحرب أوزارها وبدأ الاستحقاق الداخلي والاقتصادي.
معركة دولة عظمى مثل بريطانيا ليست خارجية حالياً. انتهتْ حقبة "بريكست"، ولم يعد ملف التهريب عبر القناة الإنكليزية أولويةً في مزاج الشارع، هناك استحقاقات داخلية لا يمكن التهرّبُ منها، منها أزمة قيادة وفقدان الثقة السياسية شعبياً والتضخّمُ ومواجهةُ الشتاء وسط ارتفاع أسعار الوقود وانخفاضُ سعر العملة الوطنية.