متى تعتذر مصر عن مجزرة بحر البقر؟
بعد ساعات طويلة من اغتيال الشهيد إسماعيل هنيّة، لم تجرُؤ مصر الرسمية على وصف العملية التي نفذها الاحتلال الصهيوني في طهران بالجريمة، حيث يصفها البيان الرسمي الصادر عن وزارة الخارجية بأنّها "سياسة التصعيد" وبـ"الاغتيالات الخطيرة"، من دون أن يأتي على ذكر اسم الشهيد، الذي هو الرجل الأول في حركة حماس التي تقول القاهرة إنّها "وسيط مشارك" في المفاوضات بينها وبين الكيان الصهيوني.
ينصّ بيان "الخارجية" على أنّ مصر اعتبرت "هذا التصعيد الخطير ينذر بمخاطر إشعال المواجهة فى المنطقة بشكلٍ يؤدّى إلى عواقب أمنية وخيمة، محذّرة من مغبّة سياسة الاغتيالات وانتهاك سيادة الدول الأخرى وتأجيج الصراع فى المنطقة". ومن المفترض، بالمنطق والقانون الأخلاقي والسياسي، أنّ عملية اغتيال مسؤول سياسي رفيع في أيّ مكان هي عمل إرهابي، وليست"سياسة تصعيد"، لكن بيان الخارجية المصرية لم يرَ ذلك، وهنا تحضر المفارقة أو الكيل بمكيالين عند مصر الرسمية، حين تقرأ بياناً للخارجية المصرية عن الصومال بعد يومين من اغتيال هنيّة وحارسه الشخصي، وتجد فيه: "أدانت جمهورية مصر العربية في بيان صادر عن وزارة الخارجية والهجرة يوم 3 أغسطس الجارى، التفجير الإرهابي الذي استهدف فندقاً شهيراً في العاصمة الصومالية مقديشو، وأسفر عن وقوع عشرات الضحايا والمصابين". وأعربت مصر عن "خالص التعازي والمواساة لحكومة وشعب جمهورية الصومال الفيدرالية الشقيقة، ولذوي ضحايا هذا العمل الإرهابى المروّع، متمنيةً الشفاء العاجل للمصابين". وأكّدت "جمهورية مصر العربية على تضامنها الكامل ودعمها لكافة جهود دولة الصومال الشقيقة في مكافحة الإرهاب وتحقيق الأمن والاستقرار".
في هذا البيان توصيف سليم للحدث بأنّه "جريمة إرهابية"، وإدانة شديد الوضوح، وتعزية للشعب الصومالي وحكومته، ثم التضامن الكامل والدعم لدولة الصومال الشقيقة ضدّ الإرهاب. في اغتيال شهيد فلسطين لا تجد عزاءً من مصر، لا حضورياً ولا كلامياً، للشعب الفلسطيني، ولا تجد كذلك تضامناً ولا دعماً، بل تجد العكس تماماً، إذ بدأت وسائل الإعلام ونوافذ "السوشيال ميديا"، المُعبّرة عن مواقف النظام المصري، حملة شيطنة واتهام للشهيد وللمقاومة الفلسطينية بالإرهاب، واشتغلت ماكينات التلفيق والتزييف سريعاً لاختراع تسريبات ومكالمات تدين الشهيد وتعادي المقاومة الفلسطينية، وتتبنّى الروايات الصهيونية بحذافيرها.
لم تجرؤ مصر الرسمية كذلك على اتخاذ قرار بالمشاركة في مراسم تشييع هنيّة في الدوحة، رغم أنّ وزير الخارجية بدر عبد العاطي كان في قطر، بعد ساعات من مشاركته هنيّة الاحتفال الذي قتل فيه في طهران، ولم ترسل إلى تلّ أبيب ما يفيد الاحتجاج والغضب من الاستهتار بعملية الوساطة من أجل التهدئة، لكنّها، وبجسارة نادرة، وفي اللحظة التي اتخذت فيها قراراً باستقبال رئيسَي الموساد والشاباك، ساعات بعد تشييع جثمان الشهيد هنيّة، أجرت اتصالات مع طهران من أجل احتواء "التصعيد" في المنطقة، والذي يعني الضغط لمنع الردّ المُتوقّع انتقاماً لاغتيال كرامة إيران والشهيد هنيّة، معاً، في العملية التي نفّذها الموساد الإسرائيلي.
بحث الوفد الصهيوني مع المسؤولين المصريين، بحسب تقرير"العربي الجديد"، الوضع في الحدود المصرية مع قطاع غزّة، إضافة إلى السيناريوهات المتعلّقة بتشغيل معبر رفح البرّي في الفترة المقبلة، فيما غاب موضوع التهدئة أو الهدنة في غزّة، إذ قال مسؤولان إسرائيليان لموقع أكسيوس إنّ مفاوضات غزّة توقّفت من دون حدوث اختراق، ثم خرج نتنياهو في اليوم التالي ليقول، بمنتهى الوضوح والوقاحة، في بيان أمس، "أوكّد أنّنا لن نخرج من محور فيلادلفيا ومعبر رفح".
هل يعني ما سبق شيئاً آخر سوى أنّ الحرص على استقرار العلاقة مع الكيان الصهيوني وصلابتها بات مقدّماً على العلاقة مع الجانب الفلسطيني؟ وهل يقول ذلك كلّه سوى أنّ إسرائيل باتت تقود محوراً عربياً يمكنك أن تطلق عليه من دون أن تكون مبالغاً "دول الطوق العربي الجديدة"، التي تحاصر المقاومة الفلسطينية من اتجاهات عدّة لضمان أمن الاحتلال؟
إذا كان ذلك كذلك، فما الذي يمنع أن نسمع قريباً اعتذاراً رسمياً عن اتهام الكيان الصهيوني بارتكاب مجزرة بحر البقر في مصر 1970، وعن حرب الاستنزاف، وحرب أكتوبر 1973، وأن نرى تظاهرات إلكترونية لمجموعات المتصهينين الجدد تطالب بحذف تلك المعارك كلّها من سجلّات التاريخ، كي لا تعكّر صفو العلاقة مع الأصدقاء، وتعطّل الشراكة في الغاز الطبيعي المسروق من فلسطين؟