مبعوث أُممي رابع ومهمة صعبة في اليمن
بتعيين هانز غروندبرغ، السويدي الجنسية، سفير الاتحاد الأوروبي السابق في اليمن، مبعوثاً للأمم المتحدة في اليمن، الرابع خلفاً للبريطاني، مارتين غريفيث، يدخل الملف التفاوضي اليمني مرحلة ربما أكثر تعقيداً، إذ تتقاطع محطات الفشل الأممي في إدارة الملف اليمني مع مآلات الصراع في البلاد بأبعاده المحلية والإقليمية، والمتغيرات العسكرية على الأرض، لتشكل عقبة في استئناف المسار التفاوضي؛ ففي حين يطرح تعاقب أربعة مبعوثين أمميين أزمة الأمم المتحدة العميقة في اليمن، فإن عدم نضج مواقف الأطراف الإقليمية الفاعلة في وقف الحرب يشكل عائقاً في إحراز تقدّم في المسار السياسي، خصوصا مع تحول المياه اليمنية إلى ساحةٍ للصراع بين إيران والقوى الدولية، في وقتٍ تراهن فيه جماعة الحوثي، وكيل إيران، على الخيار العسكري لتغيير المعادلة العسكرية في مدينة مأرب لتحسين شروطها التفاوضية، فضلاً عن تصدّع التحالف السعودي - الإماراتي في اليمن، وتصعيد الصراع بين وكلائهما في جنوب اليمن؛ كما أن الاختلافات الجوهرية بين فرقاء الصراع حيال مرجعيات الحل النهائي عقبة كبيرة في تحريك الملف السياسي، ومع صعوبة التكهن بقدرة المبعوث الجديد على حلحلة هذه المشكلات، بما في ذلك احتمال تحوّل أدائه إلى مشكلة أخرى، فالأكيد هنا أن تولي سفير الاتحاد الأوروبي السابق في اليمن منصب المبعوث يعني تحوّل الاتحاد طرفا فاعلا في الأزمة اليمنية، إلا أن ذلك لا يعني سهولة دفع العملية السياسية، وذلك لتشابك جملة من التعقيدات المحلية والإقليمية، بحيث من الصعب تفكيكها، إضافة إلى سياسة المبعوث والدور الذي يمكن أن يلعبهُ في ضوء هذه المعطيات.
مع كل المشكلات التي أنتجها المبعوث الأممي السابق إلى اليمن، غريفيث، على الجديد، قبل أي شيء آخر، تجاوز تركة الحلول الجزئية التي تفضي إلى استدامة الحرب
يمثل أداء المبعوثين الأمميين في اليمن إحدى المشكلات التي ساهمت في اختلال المسار السياسي، الأمر الذي قد يجعل من تعيين مبعوث جديد مجرّد تغيير وظيفي، مع ما يمثله ذلك من انتقال القوى التي يمثلها إلى الصدارة في إدارة الملف اليمني، فقد أثبتت تجربة المبعوثين المتعاقبين فشلهم في فهم بُنية الصراع المحلي، وكذلك ترحيلهم المشكلات الحقيقية، مقابل إنتاج تسويات فوقية. وتمثل إدارة المبعوث السابق في اليمن، مارتن غريفيث، الملف التفاوضي ثلاث سنوات دليلاً على الفشل التراكمي للأمم المتحدة في اليمن، حيث اجتزأ الحل السياسي الشامل للأزمة عبر تصعيد قضايا جزئية، وكذلك زجّ الملف اليمني في دائرة المقايضات السياسية، سواءً مع السعودية أو جماعة الحوثي، وأخيراً إيران، حيث تشكل اتفاقية استوكهولم الملمح البارز لإدارة غريفيث الملف التفاوضي، إذ قايض وقف هجوم التحالف العربي الذي تقوده السعودية على مدينة الحديدة مقابل دفع جماعة الحوثي إلى التفاوض، لكن الاتفاقية أنتجت، في النهاية، واقعاً مختلاً، فإضافة إلى فصل الحرب في مدينة الحديدة عن سياقات الحرب في اليمن، فقد فشلت الاتفاقية في تخفيض التصعيد العسكري في اليمن، عدا بالطبع عن حرص جماعة الحوثي على إيجاد وضع مشابه في مدينة مأرب، لوضع مدينة الحديدة، وهو ما تسعى إليه في الوقت الحالي؛ كما شرعن المبعوث السابق اتفاق الرياض بين الحكومة اليمنية والمجلس الانتقالي الجنوبي (2019)، ومنح المجلس، المدعوم من الإمارات شرعية الأمر الواقع. ومع كل المشكلات التي أنتجها المبعوث السابق، على الجديد، قبل أي شيء آخر، تجاوز تركة الحلول الجزئية التي تفضي إلى استدامة الحرب في اليمن.
تعيين غروندبرغ قد يكون مؤشّرا لتغيير السياسة الدولية حيال اليمن، وذلك بمنح الاتحاد الأوروبي دوراً جديداً، بعد فشل بريطانيا، من خلال غريفيث، في حلحلة الجمود السياسي
من موقعه وسيطا، تؤثر جنسية المبعوث الأممي، والقوى التي يمثلها، على إدارته العملية التفاوضية، إذ يمنحه ذلك أوراق ضغط غير مباشرة للتأثير على أطراف الصراع. وفي هذا السياق، فإن تعيين هانز غروندبرغ، السويدي الجنسية، وسفير الاتحاد الأوروبي في اليمن، يشكل تحولاً في إدارة الملف اليمني، فإضافة إلى خبرته في التعامل مع أطراف الحرب المحلية والإقليمية، التي قد تسهم في فهمه ديناميكا الصراع المحلي، وإن كان إسهامه في توقيع اتفاق استوكهولم إبّان عمله السابق رئيس قسم الشؤون الخليجية في وزارة الخارجية السويدية لا يبشر كثيراً بالتفاؤل، فإن تعيينه في هذا المنصب قد يكون مؤشّرا لتغيير السياسة الدولية حيال اليمن، وذلك بمنح الاتحاد الأوروبي دوراً جديداً في الأزمة، وذلك بعد فشل بريطانيا، من خلال غريفيث، في حلحلة الجمود السياسي، بما في ذلك فشل جهود المبعوث الأميركي لليمن، تيم ليندركينغ، في دفع جماعة الحوثي لقبول وقف إطلاق النار، أي تجريب الحلول الأوروبية، بعد فشل الحلول البريطانية والأميركية، إلا أن ذلك يطرح فعالية الدور الذي قد يلعبه الاتحاد في الملف اليمني لتدعيم مركز المبعوث الجديد والأوراق التي يمتلكها الاتحاد لدفع العملية السياسية، بما في ذلك الضمانات التي قد يقدّمها لفرقاء الصراع الإقليميين والمحليين، بيد أنه لا يمكن التعاطي مع الاتحاد الأوروبي، بوصفه كتلة سياسية متجانسة في سياسته الدولية، حيث تطغى التباينات في مواقف الدول الأوروبية بما في ذلك طرق معالجتها هذه القضايا، فيما يمثل تمايز علاقتها بأطراف الصراع في اليمن مثالاً على تبنّيها مصالحها في المقام الأول، وعدم امتلاكها سياسة موحدة، وإنْ حاولت كمنظومة طرح خطاب سياسي معتدل بشأن الصراع في اليمن، لتثبيت تفوّقها الأخلاقي حيال السياسة الأميركية في اليمن، لكن الاتحاد الأوروبي عموماً، وطوال سنوات الحرب، ظل يتخفّى خلف سياسة أميركا، وإن كثف نشاطه في العملية الإنسانية في اليمن، مقابل استفادته من الحرب، بوصفها سوقا لبيع الأسلحة للسعودية، حيث تعد الدول الأوروبية أكبر مورّد سلاح للسعودية، من فرنسا إلى السويد، موطن المبعوث الجديد، ومن ثم ينحصر الثقل السياسي للاتحاد الأوروبي فيما يخصّ الملف اليمني بعلاقته بايران، حيث يعول بعضهم على هذه العلاقة أن تكون ورقة للضغط على جماعة الحوثي، من خلال ربط الملف التفاوض النووي مع إيران بالملف اليمني، ومنح إيران امتيازات لدفع العملية السياسية في اليمن، إلا أن لإيران سياستها البراغماتية بشأن الملف اليمني التي تخضع لمصالحها، وكذلك لتوجهات السلطة الإيرانية.
يشكّل تصاعد "حرب الظل" بين إيران ووكلائها في المنطقة، وبين إسرائيل والقوى الدولية تطورا خطيراً قد يعيق عمل المبعوث الجديد
اتخذت السياسة الإيرانية حيال الملف اليمني، بما في ذلك علاقتها بوكيلها جماعة الحوثي، تحولات عديدة، وذلك وفقاً لإدارتها استراتيجيتها الإقليمية والدولية في حماية مصالحها الحيوية، ففي حين منحتها جماعة الحوثي نفوذاً إقليمياً في اليمن، بحيث أصبحت عصاها الغليظة لاستهداف منافسها التقليدي، السعودية، وتهديد المصالح الدولية في البحر الأحمر، فإن إيران ظلت تمارس دوراً مزدوجا في اليمن، بتكييف علاقتها بوكيلها بحسب مصالحها المتغيرة؛ فعلى الرغم من سيطرتها على القرار السياسي لجماعة الحوثي، بما في ذلك توظيفه رأس حربة في صراعها الإقليمي ضد خصومها، فإن إيران تعتمد على سياسة منح وكيلها استقلالية العمل قوة تهديد خارجة عن السيطرة، بما يخدم مصالحها بالطبع، في مقابل إعفاء نفسها أمام المجتمع الدولي من تحمّل أي مسؤوليةٍ حيال حماقات وكيلها، ومع أن السياسة الإيرانية شهدت تحوّلاً إبّان السلطة السابقة، بحيث بدت أكثر انفتاحاً في خطابها السياسي تجاه السعودية، ومن ثم أميركا، وبالتالي عرض خدماتها الدبلوماسية لدفع وكيلها إلى قبول المفاوضات، وذلك وفق اشتراطاته المحلية واشتراطات إيران الإقليمية، فإن تولي الرئيس الإيراني الجديد، إبراهيم رئيسي، السلطة، والذي يبدو أكثر تشدّداً في مقاربة القضايا الإقليمية قد يلقي بظلاله السلبية على الملف اليمني، بحيث قد تدفع وكيلها جماعة الحوثي إلى التصلّب أكثر في رفض مبادرات وقف الحرب، وإفشال جهود المبعوث الجديد، ومن ورائه الاتحاد الأوروبي، من الاعتماد عليها ورقة ضغط على الجماعة. ومن جهة أخرى، يشكّل تصاعد "حرب الظل" بين إيران ووكلائها في المنطقة، وبين إسرائيل والقوى الدولية تطورا خطيراً قد يعيق عمل المبعوث الجديد، حيث اتخذت هذه الحرب منحىً تصعيدياً على إثر استهداف سفينة ميرسر ستريت الإسرائيلية في خليج عُمان نهاية الشهر المنصرم (يوليو/ تموز)، والتي أسفرت عن مقتل قبطان السفينة الروماني وحارس أمن بريطاني، إذ اتهمت بريطانيا إيران بتزويد وكيلها جماعة الحوثي بطائرات مسيّرة إيرانية الصنع لتنفيذ الهجوم من شواطئ مدينة المهرة اليمنية، ترتب على تلك الحادثة وصول جنود بريطانيين إلى المدينة، وهو ما يعني بقاء اليمن، بالنسبة لإيران، ساحة مضطربة لتنفيذ أجنداتها، وحماية بقاء وكلائها قوة مهدّدة للمجتمع الدولي، ومجالاً مفتوحاً بالنسبة للقوى الدولية لتطويق أخطار تتهدّد مصالحها.
يمثل تباين فرقاء الصراع حيال مرجعيات الحل النهائي مشكلةً قد يصعب على المبعوث الجديد اختراقها
إلى ذلك، تعيق فرص دفع المبعوث الجديد العملية السياسية قضايا أكثر تعقيداً، إذ يمثل عدم امتلاك القوى الدولية أوراق ضغط فاعلة على جماعة الحوثي، تتعدّى المراهنة على تأثير حليفها الإيراني على سياستها العدائية السبب الرئيس لتعثر العملية السياسية، إذ تتمسّك الجماعة بمكاسبها على الأرض، من خلال استمرار هجماتها على مدينة مأرب، معقل السلطة الشرعية، والمدينة الغنية بالثروات النفطية، لضمان موردٍ ماليٍّ دائم لتثبيت سلطتها، أو على الأقل مقايضة وقف هجومها على مدينة مأرب، باتفاقيةٍ تضمن لها الشراكة في ثروات المدينة، وإن اشترطت، قبل أي تفاوض، فتح مطار صنعاء ودخول المساعدات الإنسانية المناطق الخاضعة لها، أي فصل الخيار الإنساني عن وقف إطلاق النار. ومن جهةٍ أخرى، يمثل تباين فرقاء الصراع حيال مرجعيات الحل النهائي مشكلةً قد يصعب على المبعوث الجديد اختراقها. ففي حين تتمسّك السلطة الشرعية، بالمرجعيات الثلاث الممثلة بقرار مجلس الأمن 2216، والمبادرة الخليجية ومخرجات الحوار الوطني، فإن القوى الأخرى، من جماعة الحوثي إلى المجلس الانتقالي الجنوبي والمؤتمر الشعبي العام، تراهن على تغيير القرار الأممي، من خلال البحث عن صيغةٍ لنقل السلطة أو توسيع القرار الأممي بحيث يشمل كل القوى المسلحة، وهو ما يعني اصطدام المبعوث الجديد بهذه العقبات، والسقوط في حفرة سابقيه، وفي حال تجاوزها بقرار أُممي يعني إنتاج مشكلات جديدة لا تتوقف على تعويم الحرب في اليمن، والدفع نحو تشظّيه.