ما يعنيه في شمال أفريقيا فراغ السّاحل من فرنسا؟

06 ديسمبر 2024
+ الخط -

بعد بوركينا فاسو والنيجر ومالي، جاء الدور على تشاد والسنغال (في غرب أفريقيا) لإبطال اتفاقيات الدفاع مع فرنسا، موجدا حالة فراغ استراتيجي تستدعي إدراكاً جديداً للوضع، وتقديراً لتداعيات ما جرى، على كلّ المستويات، إضافة الى استشراف مستقبل المنطقة، وبخاصّة على الفاعلين في شمال القارّة، في منطقتنا المغاربية.

من المستحيل أو من المستبعد أن تتزامن كلُّ هذه الانسحابات الفرنسيّة، من ناحية، واتفاق الفاعلين الأفارقة، في الساحل وغيرها، على إبطال معاهدات الدفاع، مع فرنسا، من ناحية أخرى، من دون أن يكون لذلك خلفيّة استراتيجيّة متعلّقة بمؤشّراتٍ كثيرة، منها ما يتعلّق بشراكات جديدة أكثر نفعاً للأفارقة يريدون تفعيلها بعد بروز عدم التوازن والاستقطاب اللذين يميزان شراكاتهم مع المستعمر القديم، ومنها ما يتعلّق بتراجع فرنسا في مكانتها الدولية، ارتفاع وتيرة التنافس الدولي أي العروض الدُّولية للشراكات، ومنها ما له صلة، من ناحية ثالثة، مع الوعي الأفريقي بوجوب التفكير في واقع استراتيجي جديد يعيد البريق إلى الاستقلال ومشاريع التنمية بعيداً عن الشراكات المصلحيّة التي تُعرض على القارّة. من هنا ومن هناك، من دون أن يكون للقارّة وفاعليها مصلحة أو كلمة يقولونها، وكأنّهم في تبعيّة جديدة في لبوس جديد غير تبعيّة الاستعمار القديم المباشر ولبوسه، سواء من الغرب أو من غيره من القوى العالميّة و الإقليميّة.

حاولت مصادر كثيرة قراءة الأحداث التي شهدتها القارّة أخيراً، في الساحل، بصفة خاصة، حيث وقعت انقلابات ثلاثة في النيجر وبوركينافاسو ومالي جاءت، في أثرها، مطالبات تزامن فيها انخراط روسي بمليشيا فاغنر وأخرى تضمّنت الانعتاق من الوجود الفرنسي كان من علاماته اتّفاقيات الدفاع التي تمّ توقيعها قبل منح فرنسا الاستقلال للدُّول الأفريقية، في العام 1960، بقصد التفرُّغ للحرب التحريرية في الجزائر، آنذاك، وهو ما لا يمكن قراءته إلا من خلال أدوات سياسية، استراتيجيّة واقتصاديّة، حيث تتضمّن تلك المطالبات بمؤشّر تزامنها ذلك.

شراكات جديدة أكثر نفعاً للأفارقة يريدون تفعيلها

بالنسبة للقراءة السياسية، فكّرت فرنسا، منذ مجيء ماكرون، في عقيدة استراتيجية جديدة تتضمّن التفرُّغ للشأن الاقتصادي مع ارتفاع وتيرة التنافسية مع عمالقةٍ لا يمكنها مجاراتهم، خاصّة الصين، كما تتضمّن تلك العقيدة إعادة انتشار للجهود العسكرية الفرنسية التي صنعت سياسة فرنسا في القارّة، منذ عقود، وكانت لها فوائد كثيرة، لكن عبئها أضحى، مع مشكلات فرنسا الاقتصادية، ثقيلا على ميزانية باريس، فأعلن الرئيس ماكرون عن نهاية تلك السياسة الفرنسية القديمة، وأوعز بأن تتعامل فرنسا، مستقبلا، من خلال مداخل أخرى تبقي فيها على جوهر مصالحها، ولكن من خلال أدوات تبرز، شكلا، الرغبة في الاستقلاليّة الأفريقية، من دون أن يمسّ ذلك شبكات التأثير الفرنسية الاستخباراتية ومصالح باريس في بلدان أفريقية عديدة. وعليه، سارعت فرنسا إلى عقد اجتماعات جماعية وأخرى ثنائية فتحت فيها الباب، واسعاً، أمام الأفارقة للتعبير عمّا يتوقون إليه من الانعتاق من ربقة التبعية لفرنسا، ولكن من دون إظهار إرادة تبديل الشراكة مع باريس بشراكة أخرى منافسة لها، وهي ما لم تكن السُّلطات الفرنسية تراه بذلك الزخم وبتلك السرعة في الإنجاز، خاصّة في البلدان التي كانت واثقة بأنها ستكون غير جاهزة للتخلّي عن شبكات العلاقات مع باريس وقصر الإليزيه.

أمّا القراءة الاستراتيجية فتكمن في محاولة فرنسا استدراك تأخّرها في تحسين عرض الشراكة الذي كانت تتعاقد فيه مع الدول الأفريقية المتضمن التعامل من خلال مداخل التعالي، عدم التوازن والاستقطاب ومعادلة رابح/ خاسر من خلال فاعلين هم قصر الإليزيه، شبكات الاستخبارات والمرتزقة، إضافة إلى رجال أعمال كانوا الحجر الأساس، فيما كان يسمّى سياسة فرنسا الأفريقية حيث كان السفير الفرنسي، في بعض العواصم الأفريقية، هو السُّلطة الموازية للرئاسة وللسيادة الوطنية مع حضور عسكري دائم في إطار ديكور لم تكتسب منه تلك الدُّول الأفريقية إلا الاستقلال الاسمي الصُّوري، المتمثّل، في صورة ناصعة، في عملة تلك البلدان، الفرنك الأفريقي، ووجوب ادّخار العملات الأجنبية في بنك فرنسا. أي، باختصار، لا وجود لسيادة ولا استقلال مع غياب لأيّة تنمية أو آفاق لتغيير حياة الأفارقة وأوضاعهم الحياتيّة، بصفة خاصّة.

لا وجود لسيادة ولا استقلال مع غياب لأيّة تنمية أو آفاق لتغيير حياة الأفارقة وأوضاعهم الحياتيّة

بقيت فرنسا محتفظة بذلك العرض، ولم تراجعه، بالرغم من مطالبات الأفارقة المتكرّرة، بل راحت تطالب تلك الدول بالديمقراطية مقابل الحصول على مساعدات، ولكن وفق رؤيتها إلى الديمقراطية التي لا تعني إلا سيطرة فرنسية، وسعياً إلى اختيار نخبة محدّدة وتفضيلها إذا لم ترق لكل الشبكات الفرنسية النخبة الحاكمة، أو كانت مطالبات تلك النخبة دون مستوى رغبات المصالح الفرنسية.

وطبعاً، لم تستفق فرنسا إلا على منتديات عرض الشراكات من القوى الدولية والإقليمية على القارّة من روسيا، أميركا، الصين، اليابان، إسبانيا وتركيا، إضافة الى شراكة الكومنولث (منظّمة يرعاها التاج البريطاني وتضمُّ دولاً كانت مستعمرات سابقة للإمبراطورية البريطانية) التي كانت الدول الناطقة بالإنكليزية تشعر بها من خلال معاملة استراتيجية، سياسية واقتصادية أفضل، نسبيا، من المعاملة الفرنسية للمنطقة الفرنكفونية الى جانب ملاحظة الدول الأفريقية تدهور الوضع الأمني بتهديدات لم تستطع فرنسا التحضير لمواجهتها على غرار الإرهاب، الجماعات المسلّحة، التهريب والهجرة غير الشرعية، ما استدعى البحث عن عروض شراكات تؤمن ذلك القصور في الشؤون الأمنية والدفاعية سواء لدى الصين أو روسيا أو من خلال ذراع حلف شمال الأطلسي للقارّة الأفريقية (أفريكوم).

من ناحية أخرى، كانت الاستجابة الفرنسية، على المستوى الاستراتيجي، تتّسم باإدراك مصالح فرنسا فقط من خلال إما التدخل لحماية مناطق الإمداد من الذهب (مالي، عمليتي سرفال وبرخان)، اليورانيوم (النيجر)، بعض المواد الخام لشركاتها الكبرى (ساحل العاج للكاكاو، مثلا) أو البلدان صاحبة الموانئ الحيوية للاقتصاد الفرنسي بقصد حماية مصالح رجال أعمال أقوياء على غرار بولوري، مثلا، بل هناك استخدام لأدوات بمرجعية الاستقطاب على غرار ما قامت به فرنسا عندما أنشأت جيش الساحل المكوّن من خمس دول (مالي، النيجر، تشاد، بوركينافاسو وموريتانيا) بعد رفض الجزائر والمغرب الانضمام الى ذك الجيش والعمل لصالح المصالح الفرنسية في الساحل أي مناولة أمنية باسم القوة الاستعمارية القديمة.

فكّرت فرنسا، منذ مجيء ماكرون، في عقيدة استراتيجية جديدة تتضمّن التفرُّغ للشّأن الاقتصادي مع ارتفاع وتيرة التنافسية مع عمالقةٍ لا يمكنها مجاراتهم، خاصّة الصين

على مستوى القراءة الاقتصادية، تعاملت فرنسا بخطط جعلت من البلدان الأفريقية في حالة تبعيّة كانت نظريّة حملت المسمّى ذاته لعبت فيها فرنسا المركز الرّأسمالي والدول الأفريقية الساحلية والفرنكفونية دور المحيط الذي وقع ضحيّة لمعاملات غير متوازنة ومستقطبة كانت أدواتها الشبكات الاقتصادية، ذاتها، التي شكّلت الفواعل الأساسية في سياسة فرنسا الأفريقية المذكورة، من ناحية، والأدوات الاقتصادية (الفرنك الأفريقي، التقسيم الدولي للعمل مع تخصيص البلدان الأفريقية للمواد الخام التي يحتاجها الاقتصاد الفرنسي، إضافة إلى تخصيص كل الموارد المالية لتوازن الخزينة الفرنسية ومنها وجوب إيداع العملات الصعبة في بنك فرنسا)، من ناحية أخرى.

بقيت الدُّول الأفريقية، بسبب ذلك في تخلُّف وتبعيّة، وزادتها المديونية وتركُّز المصالح الاقتصادية في أيدي الشركات الفرنسيّة ورجال أعمال فرنسيين تخلُّفا، جاءت عروض الشّراكات، غير الفرنسية، دوليا وإقليميا، بمثابة طوق نجاة للاقتصاديات الأفريقيـة، وبخاصّة أنّ تلك العروض كانت، شكلا ومضمونا، أفضل من حيث الاستثمارات، استغلال الموارد أو الاستفادات من الموارد الاقتصادية لصالح الشعوب الأفريقية كان عنوانها معادلة رابح/رابح لتكون، بالنتيجة، من بين الأسباب التي استدعت ذلك التعامل الفج والجذري مع باريس بعد الانقلابات كما كانت وراء تلك المطالبات الأفريقية الساحلية للجيش الفرنسي بمغادرة تلك الدول، كانت أخيراً تشاد وإثرها، في غرب القارّة، السنغال.

نصل الى تأثير ما يجري، من رفض لفرنسا وانسحاب جيشها من الساحل، بصفة خاصّة، على شمال القارّة أو المنطقة المغاربية، حيث كان لرفض المناولة الدفاعية والأمنية، لصالح باريس، منذ عدة أعوام، الأثر في فشل فرنسا في الحفاظ على وجودها وأمن المنطقة وفشل مبادرة الجيش الساحلي، ما أدّى، بعد ذلك، إضافة إلى العوامل المذكورة، سياسيا، استراتيجيا واقتصاديا، إلى الانقلابات وإلى موجة الرفض للوجود الفرنسي يتمدّد، مع الوقت، لا ليشمل الساحل، فقط، بل وصل إلى الحلفاء التقليديين لفرنسا على غرار السنغال، ساحل العاج والغابون وأفريقيا الوسطى.

تعاملت فرنسا بخطط جعلت من البلدان الأفريقية في حالة تبعيّة كانت نظريّة حملت المسمّى ذاته لعبت فيها فرنسا المركز الرأسمالي والدول الأفريقية الساحلية والفرنكفونية دور المحيط

كان من آثار ما حدث، في الساحل، العمق الاستراتيجي للمنطقة المغاربية، ما تحاول فرنسا القيام به من تأجيج الخلاف الجزائري - المغربي، خاصة من خلال ملف الصحراء، ثم الانخراط الفرنسي في إيجاد مشكلاتٍ كثيرة للجزائر، من خلال انخراط طبقتها ونخبتها السياسية في إثارة مشكلات الذاكرة ومحاولة فرنسا استخدام "كتّاب في مهمّة" في ذلك كله.

وما ذلك، في الحقيقة، إلا جزء من التداعيات على المنطقة المغاربية، ذلك أنّ فرنسا لن تنسى للمنطقة رفضها المناولة الأمنية. وها هي تدّعي أن المنطقة المغاربية، خاصّة الجزائر والمغرب وتونس، ترفض مساعدتها في احتواء الهجرة غير الشّرعية بل يمتد الانتقاد الفرنسي الى محاولة ادعاء أنّ الإسلاماوية في تمدد في المنطقة المغاربية وفي صفوف المهاجرين من أصول مغاربية، وما هي الا خطط للّعب الفرنسي على أوتار بعض الإشكالات الاستراتيجية لإيجاد بديل عن الفراغ الاستراتيجي الذي خلفته المغادرة الفرنسية العسكرية لمنطقة الساحل، وقريبا، غرب القارّة.

هناك أثر مستقبلي، أشير إليه في مقالات سابقة للكاتب في "العربي الجديد"، وهو ذو صلة بمخاوف فرنسا من بناء اندماجي مغاربي يشكّل فعلاً استراتيجياَ موازنا للتّأثير الفرنسي. ولذلك فهي تعمل، خاصّة بعد مغادرة الساحل، على منع أيّ سعي إلى إعادة انبعاث البناء المؤسسي المغاربي، وذلك كله من تداعيات ما يجري، منذ أعوام، في الساحل، والخاسر الأكبر في الأمر كلّه، فرنسا، المستعمر القديم.