رؤى متجدّدة في الدراسات النقدية للإرهاب
بمُجرَّد ورود أخبار عن هجوم أو عملية إرهابية في ألمانيا قبل أيام، سارع الإعلام الأوروبي، من دون أيّ إثباتات أو معلومات من مكان وقوع الجريمة، إلى استخدام الصورة النمطية، ووجّهت الاتهام إلى جهات إسلاموية، وبدأ المحلّلون، من سياسيين ومثقّفين وإعلاميين، من شتّى الشرائح الفكرية والتوجّهات السياسية، إلى نشر تغريدات، والتعليق على "بلاتوهات" القنوات الإخبارية، متّهمين المسلمين، ومردّدين تلك المقولات التي أضحت مُسلّمات عندهم عن بربرية المسلمين وكراهيتهم للآخر، وتحيّنهم فرص الأعياد لارتكاب الجرائم، وهو ما يستدعي الحاجة إلى التركيز في تلك المحاججة، والرّد عليها، من خلال ما أرساه الغرب نفسه من مبادئ ورؤى، قال عنها إنها أكاديمية، ولكنّها بخصوص الإسلام والمسلمين تصبح معاييرَ مزدوجةً، وتلوي رؤوسها لتؤدّي غرضاً أيديولوجياً، وليس علمياً ألبتّة.
تُلقي الحُجّة الأولى الضوء على ما يسمونها وحشية الإسلام، والانطلاق من خلالها لوسم المسلمين بالإرهابيين، ويخرجون بسبب ذلك تلك الصُّورة النمطية والارتكاز عليها، دونما الحاجة لإثباتات من مسرح وقوع الجريمة، وبمُجرَّد أن تأتي الأخبار بما لا تشتهيه آراؤهم من أن مرتكب الجريمة ليس مسلماً، أو أنّه مسلماً بالاسم، لكنّه ينتمي إلى توجُّهات غير إسلاموية، على غرار توجُّهات مرتكب عمليّة الدعس في ألمانيا، يبدأ بعض منهم في تبرير العملية، إمّا بالجريمة أو بإصابة مرتكبها بأمراض نفسية، ولكن (للغرابة) يبقون على تلك الصورة النمطية، ويرفضون الاعتذار على زجّ الإسلام والمسلمين عند تبنّي الحقيقة، وورود أنباء عن مرتكب العملية بأنّه ليس وفق تلك الصُّورة، وليس من تلك الأصول المُتصوَّرة.
يستمرُّ غربيون في إلقاء الحجج متحدّثين عن الأيديولوجيات الإسلامية بأنّها رافضةٌ للآخر وكارهة لكلّ ما ليس إسلاميا
يستمرُّ هؤلاء في إلقاء الحجج، ليتحدّثوا عن الأيديولوجيات الإسلامية بأنّها رافضةٌ للآخر، وكارهة كلّ ما ليس إسلاميا، وبمُجرَّد وقوف بعضهم للمحاججة بأنّ الإسلام بريء من تلك الجرائم، وبأنّ مرتكبيها إرهابيون وينفّذون استراتيجيات غريبة عن الإسلام أو أن ذلك في الحقيقة عمل له صلة بما بات يُعرَف بصناعة الموت، ويتّفق مع مخطّطات تُرسَم في دوائر استخباراتية، هنا فقط، تتوقّف تلك الحُجّة، ولكنّهم ينطلقون من ذواتهم في بناء منظومة اتّهامات يرونها مُسلّماتٍ يسمّونها في فرنسا مثلاً بـ"الانعزالية"، وفي غيرها من البلدان يسمّونها بـ"إرادة تطبيق الشريعة" و بـ"رفض قوانين الجمهورية"، وذلك كلّه هراء، لأنّ الأغلبية من المسلمين يعيشون في الغرب مسالمين، ويحترمون قوانين البلدان التي يعيشون فيها دافعين للضرائب، بل وهم من بين الأفضل في تلك المجتمعات علماً وسلوكاً واندماجاً.
تشير الحُجّة الثالثة الى ما بات يُعرف عندهم بـ"التقيّة" أو إخفاء المسلمين نياتهم السرّية بإظهار ذلك الاندماج في المجتمعات الغربية، ولكن في قرارة النفس وبتخطيط شرير يعملون على تحضير العمليات الإرهابية، وهي (التّقية) عبارة يُجمِع كثيرون من المسلمين في الغرب أنّهم لا يعرفونها (ولا يمارسونها) كما هي عند بعض فرق الشيعة. وعندما لا يجدون لهذه الحُجّة مكانةً في عقول الغربيين ووعيهم يقنعونهم بشيء آخر، وهو أنّ المسلمين أيّاً كانوا، حتى الأعلى تعليماً ومكانةً اجتماعيةً، هم خلايا نائمةٌ يتحيّنون فرصةَ اللحظة اللازمة لارتكاب جرائمهم، وبأن لا مانع لهم من ارتداء أيّ لبوس للوصول إلى أهدافهم، وقد أبرزت القنوات الإخبارية بعض الأمثلة عن تلك النماذج من تلك الحجّة، ومن يقولون بها من نخبة الإعلام والثقافة والسياسة، يشهّرون من خلالها بالمسلمين وبالإسلام.
هناك حجّة رابعة هي نظريّة المؤامرة، التي استحكمت في وعي وعقل الغرب عند تلك النخبة، فأبهرونا منذ أعوام بنظريّة الاستبدال الكبير، التي يدّعون معها أن العامل الديمغرافي سيسهم في تغيير توازنات المجتمعات والحضارات، وسيمكّن الغرب من الوصول إلى تلك النقطة التي ينقلب المسلمون فيها على أوضاع سخّرها لهم انفتاح وديمقراطية الغرب من قوانين وحرّية التعبير، لمصلحة الاستبداد بالبلدان الغربية والاستحواذ على الحكم، إذ أسهم بعض من أبناء الجالية المسلمة (أو هكذا يبدو) في نشر هذه المؤامرة و تضخيمها في أعين الغرب على غرار بوعلّام صنصال، في روايته "2084"، التي تخيّل فيها وصول واحد من المغاربيين إلى الحكم في فرنسا، وحديثه فيها عن مصير الفرنسيين والغرب إذا واصلوا فتح الباب لما يسمُّونه هم بالاندماج، يعتقد المسلمون أنه فرصة للتّمكين وتحقيق "الاستبدال الكبير".
ثمّة حجج أخرى يمكن استحضارها في هذا المقام، ولكن نكتفي بالأربع تدليلاً على مسار التغيير الفكري الذي وصل إليه الغرب، وهو المسار الذي ألبسه بعضهم لبوساً أكاديمياً، وأطلق عليه مسمّى الدراسات النقدية للإرهاب، بل وساهم بعضهم في ترقيته، من خلال مؤتمرات علمية ونشر الكتب والمجلّدات، ترسيخاً لفكر الغرب في موضوع الجريمة الإرهابية التي (للمفارقة) يعلم الجميع بالمؤشرات الكمّية أن 95% من ضحاياها من المسلمين، وبأن صناعة الموت (الاسم الحقيقي للجريمة) هي استراتيجية للإبقاء على ما أطلقت عليه وزيرة الخارجية الأميركية السابقة، كونداليزا رايس "الفوضى الخلاّقة"، التي من بين أهدافها إيجاد الظروف التي تمكّن أميركا، والمحور الصناعي العسكري، من تحقيق أهدافهما، ولكن في جوّ صراعي يغلّفه خطاب معياري أخلاقي ظاهره نشر السلام والحرّية والديمقراطية، وباطنه فوضى خلّاقة بكلّ ما حملته إلينا من تحويل الربيع العربي شتاءً إسلاموياً، ثمّ فضاء فوضى، ثورة مضادّة وخوفا من كلّ صوت ينادي بعدالة وحرّية وعيش كريم. ثلاثية بسيطة ليس فيها قلب للأنظمة ولا ثورات ضدّ الحكام.
تشير تلك الدراسات النقدية (منها مقبول علمياً) إلى المداخل التفسيرية لظاهرة الإرهاب، الاقتصادية والنفسية والسياسية والاستراتيجية، وهي مداخل لا تتعلّق بمجتمع بعينه، بل هناك إرهاب مُتعدّد الأوجه، ومرتكبوه ليسوا من دين واحد ولا منطقة، واحدة كما أن الجرائم لا تقوم بها فئة من دون أخرى، ولا أفراد يعتنقون مبادئ وينادون بتغيير أوضاع يمكن ربطهم بصورة نمطية، أو الادّعاء أنهم ينتمون إلى جهة مُحدَّدة، أو أصولهم من فضاء جغرافي دون غيره، ممّا ينشر ويُدّعى به عند ربط الإرهاب بالفضاء الإسلامي، وبالإنسان المسلم أو بالدين الإسلامي.
يجب التقدّم باقتراحات بحثية تحلّ معضلة الصورة النمطية عن الإسلام
كما قد تشير تلك الدراسات إلى تغيّرات في الإرهاب، خاصّة مع دخول الذكاء الاصطناعي، وبروز حيوية الفضاء الافتراضي، واختراع أسلحة ذات مدخلات تكنولوجية دقيقة، بل وتعلُّق بعضهم بأفكار وأيديولوجيات جديدة، ممّا لا يمكن إلّا التفكير فيه بمنهجيات علمية، والإسهام في البحث فيه في الجامعات ومراكز الفكر. بيد أن تلك التغيرات تُضخَّم في الإعلام وفي الفضاءات الافتراضية، مع وسم المسلمين بأنهم الوحيدون في العالم يمكن اختيارهم ليكونوا المجرمين والمرتكبين لتلك الفظاعات كلّها، وبخاصة أن القيام بغير ذلك، منذ السابع من أكتوبر (2023)، هو توجيه عناية النخبة تلك لجرائمَ تقع بحقّ الفلسطينيين في غزّة من الكيان الصهيوني، الذي أدانه القضاء الدولي بارتكاب مجازرَ ضدّ الإنسانية، مع إصداره مذكّرات توقيف في حقّ صنّاع تلك الجرائم والمجازر، أي رئيس وزراء الكيان ووزير أمنه.
لا يمكن إلا التقدّم باقتراحات بحثية للمستقبل، لعلّها تحلّ معضلة الصورة النمطية، وتفتح الآفاق للدراسات النقدية للإرهاب بتغيير المنطلقات، وبإبداع مقاربات أكاديمية محايدة وقريبة من الموضوعية في دراسة آفة العصر من دون التحيّز، الذي كان الراحل عبد الوهاب المسيري قد خصّص له سفرين كبيرين، رفقة جامعيين وأكاديميين منذ أعوام، لإبراز مدى الإجحاف الذي يرتكبه الغرب باسم العلم في العلوم الاجتماعية، ومنها الآن ذلك الحقل الدراسي البحثي الذي تحيّز فيه الغرب، وطغى، بتوجيه البحوث نحو اتهام جهة دون غيرها، وبالتركيز في إيجاد صورة نمطية أضحت المحور في الدراسات النقدية لظاهرة الإرهاب، وفي الدراسات الأمنية بصفة عامّة.
قد يكون في قلب تلك المقترحات، عقد ندوات نقدية لمنطلقات ذلك الحقل العلمي، واقتراح مدخلات إبداعية بديلة، مع توجيه عناية الباحثين إلى البحث فيها، والإسهام بطرح وجهة نظر مغايرة لما نلاحظه من تحيّز المنهج الغربي الوافد إلينا، والمركّز في تحميلنا وحدنا، وبصفة حصرية، فظاعات العالم وجرائمه.