ما بعد الحدث السوري

11 ديسمبر 2024

سوري يدوس على تمثال لحافظ الأسد خارج مقر الأمن العسكري وسط دمشق (9/12/2024 فرانس برس)

+ الخط -

لم يحدُث في الثورات التي شهدتها المنطقة العربية منذ هبّت عليها رياح الربيع العربي قبل 13 عاماً ونيف، أن وقع مثل هذا الاصطفاف والاختلاف الكبير حد التنافر بين المبتهجين والفرحين بإطاحة واحد من أطول الأنظمة الدكتاتورية الدموية العربية وأقساها، والذين انتابهم الحزن والتأسُّف على ما آل إليه من كان يعتبرونه آخر نظام عربي ممانع رفض التطبيع مع الكيان الصهيوني، وأدى غالياً فاتورة اختياره دعم المقاومة التي ظل يمثل عمقها الاستراتيجي حتى في عزّ حرب طوفان الأقصى التي كان سقوطه من تداعياتها الكبيرة والمباشرة.

هل يجب أن نفرح مع نتنياهو الذي وصف سقوط نظام الأسد باليوم التاريخي، عازياً هذا السقوط إلى الضربات التي وجهتها إسرائيل لإيران وحزب الله في لبنان؟ أم نحزن مع أذرع إعلامية لدول الثورات المضادّة في سقوط الدكتاتور سوى الخوف من عودة "التطرّف والإرهاب" إلى سورية؟. ... تحتاج أحداث سورية المفاجئة والمتسارعة إلى كثير من التريث والتأني لقراءتها بموضوعية، بعيداً عن نشوة الفرح المشروع لدى الشعب السوري الذي عانى الويلات تحت حكم دكتاتوري دموي قتل نحو نصف مليون شخص، وهجّر 12 مليون شخص نصفهم خارج البلاد، فقط ليحافظ على كرسيه. وبعيداً عن بكائيات المخذولين والمحبطين، بعد سقوط رمزهم واندحار قلعة صمودهم وممانعتهم. ما زال الوقت مبكّرا لفهم كيف نجح مقاتلو المعارضة بأسلحتهم المتواضعة إنجاز ما فشل "الربيع العربي" في تحقيقه عام 2011، وما عجز عن تحقيقه تكالب أنظمة إقليمية ودولية دعمت (وسلّحت ومولت) المعارضات المختلفة التي حملت السلاح في وجه النظام سنواتٍ بدون جدوى؟ وكيف تخلى الإيرانيون والروس عن حليفهم الذي كلفهم مليارات الدولارات ومئات (إن لم تكن آلاف) الأرواح، والجهود الدبلوماسية الكبيرة والمواقف السياسية المكلفة في مراحل صعبة لحمايته وتقوية وجوده على الساحة الدولية، وفرض بقائه واستمراره في حكمه طوال السنوات الماضية، رغم استخدامه الأسلحة الكيميائية ضد شعبه، وقصفه المدن والأرياف بالبراميل المتفجرة، وارتكابه جرائم حربٍ وجرائم ضد الإنسانية في حق شعبه؟ وأخيراً، وضع سقوط نظام آل الأسد نهاية لمرحلة مؤلمة من تاريخ سورية، دامت أكثر من نصف قرن، لكنه فتح الباب أمام مجاهيل كثيرة تنتظر هذا البلد الذي نخره فساد نظامه ومزّقته الحرب ودمّرت اقتصاده وشرّدت أهله وأفقرت سكانه، فكيف سيكون مآله في المستقبل ومآل المنطقة من حوله؟

سورية بلد متنوع الثقافات ومتعدّد الطوائف والمذاهب، وهي اليوم مرتع لعدّة تدخلات أجنبية عسكرية

أحد أهم تحدّيات المرحلة الجديدة في سورية الوصول إلى توافق بين قوى المعارضة التي ستطالب كل منها باستحقاقاتها المشروعة مما تحقق. ومعروف أن المعارضة في سورية معارضات مختلفة التوجهات والمشارب والطموحات والولاءات، اختلفت حتى عندما كان يوحّدها هدف واحد، إطاحة نظام الأسد، فهل ستتفق اليوم على شكل (وكيفية) بناء الدولة التي يراها كل فصيل من منظوره وحسب معتقداته، وبناء على مصالحه وولاءاته؟ هذا سؤال صعب يطرحه كثيرون، ولا يوجد جوابه في مكان واحد، وإنما عند كل فريق من فرق المعارضة التي عليها اليوم أن تتخلى عن منطق المعارضة وتتسلح بمنطق الدولة، إذا أرادت أن تتجاوز الفشل الذي آلت إليه تجارب دول عربية، سبقتها إلى إطاحة أنظمتها المستبدّة، فانتقلت من حالة الاستبداد إلى حالة الفوضى والاقتتال والفساد، وأغلبها اليوم دول فاشلة في ليبيا واليمن والسوان، أو دول تعيش أزمات حكامة بنيوية وفساداً مزمناً واستبداداً رثّاً في العراق ومصر وتونس والجزائر.

سورية بلد متنوع الثقافات ومتعدّد الطوائف والمذاهب، وهي اليوم مرتع لعدّة تدخلات أجنبية عسكرية، والتحدّي الأكبر أمام الدولة المستقبلية هو توحيد أو على الأقل إيجاد توافق بين الثقافات المتنوعة والطوائف المتعدّدة، والوصول إلى تفاهمات مع القوى الأجنبية التي تحتل أراضيها لوضع حد لوجودها أو شرعنته بواسطة اتفاقات قانونية رسمية تحفظ للبلد وحدة ترابه. ولربح رهان هذا التحدّي، على سورية تجنب الوقوع في أحد أسوأ السيناريوهين، الليبي أو العراقي، وكتابة سيناريو خاص بها يستمدّ مادته وأدواته من تجربتها الخاصة وواقعها الحالي ويراعي المعاناة القاسية والطويلة لشعبها وتضحياته الكبيرة والمؤلمة.

أحد أهم تحدّيات المرحلة الجديدة في سورية الوصول إلى توافق بين قوى المعارضة

يفرض علينا التحليل الواقعي أن لا نتسرع في التفاؤل أو نبالغ فيه، لأن المنطقة، على مشارف البوابة السورية الكبيرة التي فتحها سقوط آخر نظام دكتاتوري دموي شرق المتوسط، تقف اليوم أمام بوابة أكبر، هي بوابة العصر الأميركي الإسرائيلي الجديد الذي يُنذر بتقسيم المقسّم وتجزئة المجزّأ وإثارة النعرات الإثنية وتغذية الصراعات العرقية وإشعال الحروب الطائفية. وإذا كان الشعب السوري اليوم أكبر منتصر من سقوط نظام كتم أنفاسه وجثم على صدره أكثر من نصف قرن، فإن الرابح الكبير مما حدث هما تركيا وإسرائيل، وربما إسرائيل أكثر من تركيا، ولكلّ منهما مطامح ومطامع كبيرة في سورية، بينما الخاسر الأكبر، ليس إيران التي قد تنكفئ على ذاتها وتلعق جراحها وتبحث ببراغماتية عن مصالحها في المنطقة، وليست روسيا المنشغلة أكثر بحربها الوجودية في أوكرانيا، وإنما هو النظام العربي الرسمي، الرقم الغائب في معادلة صناعة مستقبل المنطقة، والخسارة الكبرى هي التي سيتحمّل تكلفتها الشعب الفلسطيني الذي أدّى شلال الدماء وقوافل الضحايا التي قدمها منذ فجّر طوفانه في غزّة إلى تسريع الأحداث التي أدّت إلى ما جرى في سورية.

الحدث السوري كبير وعظيم وتاريخي، لكنه يجب ألّا ينسينا التضحية الكبيرة والعظيمة والتاريخية التي ما زال يقدمها الشعب الفلسطيني من أجل نيْل حريته واستقلاله، وما قدمته المقاومة الإسلامية في لبنان من تضحياتٍ جليلةٍ نصرة لأهل فلسطين وقضيتهم. عندما نفهم كيف نربط بين الحدثين نكون قد بدأنا في استيعاب ما يحدُث ليس في سورية فقط، إنما في المنطقة وما يتهدّدها من مخاطر وما ينتظرها من تحديات كبيرة وغير مسبوقة.

D6ADA755-48E0-4859-B360-83AB4BBB3FDC
علي أنوزلا

صحافي وكاتب مغربي، مدير ورئيس تحرير موقع "لكم. كوم"، أسس وأدار تحرير عدة صحف مغربية، وحاصل على جائزة (قادة من أجل الديمقراطية) لعام 2014، والتي تمنحها منظمة (مشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط POMED).