شجاعة طبيب فلسطيني

31 ديسمبر 2024

الطبيب حسام أبو صفية يسعف مصاباً في مستشفى كمال عدوان (21/11/2024 فرانس برس)

+ الخط -

صورة الطبيب الفلسطيني حسام أبو صفيّة بوزرته البيضاء، وهو يسير واثق الخطى وسط الخراب، نحو جنود إسرائيليين مرعوبين رغم أنهم مدجّجون بالسلاح، ليسلّم نفسه لجيش الاحتلال، مؤلمة، رأينا ما هو أسوأ منها خلال حرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل على غزّة، منذ أكثر من عام، لكنّها أيضاً صورة غير عادية، لا تتكرّر كلّ يوم، بل إنها لم تحدُث من قبل في الحروب التي شهدها العالم، بما أن أطرافها تلتزم الحدّ الأدنى من "أخلاق" الحرب، ولا تستهدف المستشفيات والمسعفين. لكن جيش إسرائيل "الأكثر أخلاقية" في العالم تجاوز الحدود كلّها، وحوّل المستشفيات ساحةَ معارك، والمرضى والكوادر أهدافاً ورهائن وأسرى. قد تبدو صورة إحراق مستشفى كما عدوان وتدميره ليست جديدةً، فخلال العدوان الإسرائيلي على غزّة أُحرقت ودُمِّرت وحُوصِرت مستشفيات القطاع كلّها، وكلّنا نتذكّر الصمود البطولي للكادر الطبّي في داخل مستشفى الشفاء في أول هذه الحرب، وفي مقدمتهم الطبيب محمد أبو سلمية، وثمّة قصص أخرى لم تحكها التقارير الصحافية، ولم تسجّلها الكاميرات لبطولات عشرات الكوادر الطبّية الفلسطينية التي واجهت جيش الاحتلال بشجاعة نادرة، وجسّدت بتضحياتها أخلاقاً عاليةً لمهنة الطبّ، وكلّ من يشتغل فيها. لكن صورة حسام أبو صفيّة ستبقى رمزاً لمقاومة وحشية العدوان الإسرائيلي، وصورة المستشفى الذي حرقته إسرائيل فصلاً مأساوياً يضاف إلى الدمار الذي صنعته الآلة الصهيونية الجهنمية في غزّة قبالة صمت وتواطؤ أغلب الدول، وبمساعدة (وتحت تغطية) الغرب، وفي مقدّمه الولايات المتحدة.

فارق واضح ما بين صورة الإنسانية في أعلى قيمها التي تجسّد الشجاعة والتضحية، في مقابل صورة الشرّ في أقبح نعوته

منذ بداية العدوان الإسرائيلي على غزّة اختار أبو صفيّة، مثل أطباء فلسطينيين آخرين شجعان، البقاء في قطاع غزّة، مرابطين داخل مستشفياتهم إلى جانب مرضاهم، بالرغم من كلّ التنكيل والتعذيب والتهديد الذي كانوا يواجهونه يومياً، وبالرغم من قلّة الإمكانات وظروف الحرب الشرسة التي تشنّها إسرائيل بلا ضوابط ولا أخلاق على أهل غزّة. وهذه ليست المرّة الأولى التي يواجه فيها أبو صفيّة عدواناً إسرائيلياً، بما أن مستشفى كمال عدوان الذي كان يديره تعرّض مراراً للقصف والاقتحامات المتكرّرة للقوات الإسرائيلية، وشهد إعداماتٍ وقتلاً للمرضى، بمن فيهم الأطفال الخدّج، الذين ماتوا بسبب البرد، وقطع الكهرباء والأوكسجين عن الحاضنات. تعرّض هذا الطبيب الشجاع للاحتجاز فترة قبل عودته إلى الخدمة، رافضاً إخلاء المستشفى رغم الاعتداءات المتكرّرة عليه، واعتقال طاقمه الطبّي، فدفع ثمنَ مقاومته من دمه عندما استشهد ابنه أمامه، واضطر إلى دفنه داخل باحة المستشفى الذي يرأسه، وأصيب هو نفسه بجروح خطيرة، ومن سرير مرضه اعتبر إصابته شرفاً له، عندما كتب معلّقاً "دمائي ليست أغلى من دماء زملائي أو الأشخاص الذين نخدمهم. سأعود إلى مرضاي بمُجرَّد أن أتعافى". وفعلاً، عاد أبو صفيّة إلى أداء رسالته بكلّ شجاعة، مكرّراً النداءات إلى مجتمع دولي أصيب بالخرس والصمم لإنقاذ ما تبقّى من قيم وقوانين إنسانية، فما معنى صمت العالم وتغاضيه عن الفظاعات الإسرائيلية كلّها، التي تجاوزت الحدود كلّها؟
لم يخذل أبو صفيّة مرضاه في أيّ لحظة طوال 450 يوماً من حرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل على قطاع غزّة، وظلّ صامداً دخل مستشفاه طوال الأشهر الثلاثة الماضية، رغم الحصار والقصف اللذين كان يتعرّض لهما المستشفى، حتى أجبر بعد تدميره وحرقه على مغادرته، غادره على أنقاضه وهو مرفوع الرأس، وترك خلفه صورته ببزّته البيضاء وهو يواجه بثبات فوّهات الدبابات الإسرائيلية، الصورة التي تجسّد قيم الشجاعة والشهامة، وتختزل الرسالة النبيلة لصاحب مهنة الطبّ، لكنّها ستبقى أيضاً شاهدةً على عنف الجيش الإسرائيلي ومرضه وحقده، ومن ورائه دولته التي تجاوزت جرائمها تلك الجرائم التي يصنّفها القانون الجنائي الدولي والقانون الإنساني الدولي. نحن أمام تناقض واضح وفارق ما بين صورة الإنسانية في أعلى قيمها التي تجسّد الشجاعة والتضحية، في مقابل صورة الشرّ في أقبح نعوته، التي تدلّ على الخسّة والدناءة وقلّة المروءة.
الدكتور حسام أبو صفيّة، مثل كثيرين من زملائه في غزّة، ومثل كثيرين من المواطنين الفلسطينيين العاديين، يعطون كلّ يوم أمثلةً عاليةً على كثير من القيم التي يفقدها العالم، قيم الصمود والشجاعة والمقاومة والتضحية والاستشهاد من أجل الفكرة والمبدأ. كلّ يوم تعلّمنا غزّة وشعبها الجبّار أن قوة الإنسان تكمن في إرادته وفي إنسانيّته أيضاً، وضعفه عندما يفقد قيمه وأخلاقه. لو كان الدكتور أبو صفيّة طبيباً أوكرانياً، ومستشفى كمال عدوان يقع في ضاحية في كييف، لتحوّلت صورته، وهو يواجه الدبّابات الروسية، رمزاً للشجاعة والتضحية في العالم، لكن ازدواجية المعايير الغربية، التي فضحتها حرب غزّة، تكشف لنا كلّ يوم المستوى المتدنّي الذي انحدرت إليه معايير قيم الغرب.

اختزلت صورة حسام أبو صفية في وجه فوّهات الدبابات الإسرائيلية الرسالة النبيلة للطبيب، وتبقى شاهدةً على حقد الجيش الإسرائيلي ومرضه

صادف يوم اعتقال الدكتور أبو صفيّة مرور 450 يوماً على حرب الإبادة الجماعية ضدّ الفلسطينيين في قطاع غزّة، وخلال هذه الحرب قُتِل وجُرِح ما لا يقل عن 160 ألف شخص معظمهم من النساء والأطفال، في أكثر من عشرة آلاف مجزرة ارتكبها جيش الاحتلال، ومن بين ضحايا حرب الإبادة المستمرّة هذه، أكثر من ألف طبيب وممرّض فلسطيني، وتدمير وإحراق وتجريف عشرات المستشفيات في قطاع غزّة، وهذه فرصة للتذكير بشجاعة هؤلاء الأبطال، والتعريف بتضحياتهم، لأن السكوت عنها واعتبارها أمراً عادياً مشاركة في طمس معالم الجريمة. فإلى جانب اسمي حسام أبوصفيّة ومحمد أبو سلمية، لا يجب أن ننسى أسماء الأطبّاء الشهداء الذين قتلتهم إسرائيل تحت التعذيب، مثل عدنان البرش، وإياد الرنتيسي، بالإضافة إلى العشرات من الشهداء من الجنود المجهولين في مهنة الطبّ، الذين لا يجب أن ننسى تضحياتهم وشجاعتهم، وهذا أضعف الإيمان، في انتظار أن تنتصر العدالة لقضيتهم، وهذا ما سيحدث ولو بعد زمن طويل، لأنّ ما تزرعه إسرائيل اليوم سينبث حقداً بلا حدود، وثأراً بلا سقف.

D6ADA755-48E0-4859-B360-83AB4BBB3FDC
علي أنوزلا

صحافي وكاتب مغربي، مدير ورئيس تحرير موقع "لكم. كوم"، أسس وأدار تحرير عدة صحف مغربية، وحاصل على جائزة (قادة من أجل الديمقراطية) لعام 2014، والتي تمنحها منظمة (مشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط POMED).