ماذا ينتظر البشرية في العشرية المقبلة؟
تتطوّر صورة المخاطر التي تواجه العالم باستمرار، إذ نشر أخيراً المنتدى الاقتصادي العالمي (WEF) إصداره الثامن عشر من تقرير المخاطر العالمية 2023 الذي يسعى من خلاله لتقديم نتائج أحدث مسح لتصور المخاطر العالمية (GRPS)، كما حدّدها الخبراء وصنّاع القرار، وجرى تجميعها في خمس فئات عامة: الاقتصادية والبيئية والجيوسياسية والمجتمعية والتكنولوجية.
ويحلّل هذا التقرير الذي نشره المنتدى بالتعاون مع "مارش ماكلينان" و"مجموعة زيورخ للتأمين" (Marsh McLennan and Zurich Insurance Group) المخاطر الشديدة الناشئة حديثاً والمتغيرة بسرعة، المحتمل أن يواجهها العالم على مدى السنوات العشر المقبلة، وكيف سيؤدّي اتساع الشقوق الجيوسياسية والاقتصادية والمجتمعية إلى إثارة الأزمات المقبلة وتفاقمها؛ وذلك بالاعتماد على آراء حوالى 1200 خبير وصانع سياسات عالمي في الأوساط الأكاديمية والأعمال التجارية، والحكومية، والمجتمع الدولي، والمجتمع المدني، يرون أنه على خلفية التداعيات الصحية والاقتصادية المستمرّة لوباء كوفيد - 19 والحرب الروسية الأوكرانية، يواجه العالم مخاطر تبدو جديدة تماماً ومألوفة بشكل مخيف، وفي مقدمتها الطاقة والغذاء والتضخّم وأزمة التكلفة الإجمالية للمعيشة، التي يتوقعون أن تزداد على مدى العامين المقبلين، بينما تظل أزمة تكلفة المعيشة هي التهديد الأول، تليها الكوارث الطبيعية وحرب التجارة والتكنولوجيا.
البشرية التي وقفت حمولتها التكنولوجية والعلمية والصناعية عاجزةً أمام جائحة كورونا تقف اليوم عاجزةً أمام الطبيعة وتبعات غضبها
بالتعمّق في قراءة التقرير، يتّضح أنه على مدى العشرية المقبلة، يُنظر إلى التخفيف من آثار التغير المناخي والتكيف معه، مع فقدان التنوع البيولوجي وانهيار النظام البيئي، واحد من أسرع المخاطر العالمية وأكثرها تدهوراً تأسيساً على أن المواجهة الجيو-اقتصادية، وتآكل التماسك الاجتماعي والاستقطاب المجتمعي، وانتشار الجريمة الإلكترونية وانعدام الأمن السيبراني، والهجرة غير الطوعية على نطاق واسع، كلها تبرز في أهم أو على رأس هرم العشرة مخاطر المقبلة على البشرية في هذا العقد. وبالتفصيل، نجد أنّ "أزمة تكلفة المعيشة" صُنِّفَت باعتبارها من أخطر المخاوف العالمية خلال العامين المقبلين، حيث يرجّح استمرار الانكماش الاقتصادي الذي يفاقم أزمة الديون السيادية على النطاق العالمي. وثمّة تنامٍ لخطر الحروب الاقتصادية بين القوى العالمية بسبب حالة الانقسام الجيوسياسي القائمة على الصعيد الدولي، التي تفاقمت على إثر الحرب في أوكرانيا، ومن شأنها أن تضاعف مخاطر (وتهديدات) نشوب صراعات متعدّدة المجالات. ويشير التقرير أيضاً إلى تزايد الفجوة الآخذة في الاتساع على مستوى القيم والمساواة، وما تمثله من تحدٍّ وجودي لكل من الأنظمة الاستبدادية والديمقراطية على السواء، مع تفاقم الاستقطاب بشأن قضايا مثل الهجرة والجنس والحقوق الإنجابية والعرق والدين والمناخ، وحتى الفوضوية الانتخابية، مع تنامي الاحتجاجات في جميع أنحاء العالم، من الولايات المتحدة والصين إلى إيران. وكان للمخاطر الصحية في ظل تفاقم الأوبئة جانب من هذه التحدّيات بعدما فاقم وباء كورونا المخاطر الناشئة على الصحة البدنية والعقلية، والأمراض الغذائية والمُعدية التي يحرّكها المناخ، إضافة إلى تراجع مستويات الأمن الإنساني في العقد المقبل، نتيجة الحرب الاقتصادية والمعلوماتية التي ستستمر في تشكيل تهديداتٍ أخطر من الصراعات الساخنة، ما يؤدّي إلى انعدام الثقة والشك بين القوى العالمية والإقليمية.
ويتوقف التقرير عند مخاطر الأمن السيبراني بوصفها قضيةً تشكل مصدر قلق دولي مستمر بسبب ارتفاع معدلات الجريمة السيبرانية، ومحاولات تعطيل الموارد والخدمات الحيوية المدعومة بالتكنولوجيا وتزايد معدل الهجمات الإلكترونية على قطاعات حيوية والخسائر التي تنجم عنها. أما قضية القضايا، وهي التغيرات المناخية، فتتربع على عرش التحدّيات والمخاطر التي تواجهها البشرية، بسبب تداعياتها واسعة المدى على مختلف القطاعات وتفاعل تأثيراتها من فقدان التنوع البيولوجي والأمن الغذائي واستهلاك الموارد الطبيعية وتهديد الإمدادات الغذائية وسبل العيش في الاقتصادات المعرضة لتغيرات المناخ، وتضخيم آثار الكوارث الطبيعية، وليس انتهاءً بمخاطر تتعلق بأزمة سلاسل التوريد على المستوى العالمي وبروز الفجوة المتزايدة بين العرض والطلب على الموارد الطبيعية.
سيناريوهات مخيفة تنتظر العالم، وأثمانٌ ستبقى تُدفع ضريبةً لما ارتكبه البشر في الأرض لعقود مقبلة
بناءً على نتائج التقرير الذي يدقّ ناقوس الخطر من مخاطر شديدة الترابط، فإنّ الرسائل الأساسية المستفادة منه يمكن إجمالها بالآتي: هيمنة تكلفة المعيشة على المخاطر العالمية في العامين المقبلين وبروز قضية فشل العمل المناخي وتفاقم أزمات الغذاء والوقود والتكلفة، وركود وتباعد وضيق ستؤدي إلى التشرذم الجيوسياسي وحروب جغرافية اقتصادية تزيد من خطر نشوب صراعات متعدّدة المجالات؛ وستظلّ مخاطر الأمن السيبراني مصدر قلق دائم للبشرية جمعاء. ونظراً إلى تزايد التقلبات في مجالات متعدّدة بشكل متوازٍ، فإن خطر حدوث تعدّد الدورات سيتسارع، إلا أن ثمّة نافذة يشير إليها التقرير، قد تكون مخرجاً لمواجهة هذه الأزمات، من خلال استعدادات أكثر فاعلية، حسب مؤسّس منتدى دافوس، كلاوس شواب، الذي يقول: "من خلال قوة التعاون والابتكار والنيات الحسنة والإبداع البشري، لدينا القدرة على تحويل التحدّيات إلى فرص، عبر الاحترام المتبادل والتعاون". لكن هذا القول المثالي يحتاج إلى بناء ثقة بالأنشطة متعدّدة الأطراف، والقادرة على تعزيز القدرة الجماعية على منع الأزمات الناشئة عبر الحدود، والاستجابة لها، وتقوية الحواجز اللازمة للتصدّي للمخاطر الراسخة. نعلم جميعاً أن أزمة كورونا أثبتت للبشرية أن التحدّيات والمخاطر العالمية تحتاج إلى حلول من كل الأطراف على حد سواء، فمن الضروري وجود حوكمة متعدّدة الأطراف أقوى، وتعاون من أكبر الدول تقدّماً في الصناعة والموارد، لأنها الأكثر إيذاءً للأرض والفضاء والإنسان القائم بينهما.
عوداً على بدء، ثمّة سيناريوهات مخيفة تنتظر العالم، وثمّة أثمانٌ ستبقى تُدفع ضريبةً لما ارتكبه البشر في الأرض لعقود مقبلة، بسبب الجشع والطمع وحب السيطرة وفرض النفوذ والقتل والتدمير والغرق في دوّامة الحروب والصراعات والمكائد، والرغبة في الكسب السريع، فالبشرية التي وقفت حمولتها التكنولوجية والعلمية والصناعية عاجزةً أمام جائحة كورونا تقف اليوم عاجزةً أمام الطبيعة وتبعات غضبها، وهو ما سيظهر بشكل أوضح وأفظع في الأيام المقبلة... فهل نحن مستعدّون، أم ما زلنا بحاجةٍ إلى تذكير الطبيعة لنا بقدرتها وجبروتها، وأن الإنسان لم يقهرها كما يظن، وإنّ بعض الظن إثم؟