ماذا كسب قيس سعيّد بعد اعتقال الغنّوشي؟
تبيّن كل المعطيات الماثلة أمامنا في المشهد التونسي، على سبيل اليقين، أن البلد قد دخل فعلاً مرحلة الحكم الاستثنائي والاعتباطي، حيث باتت شؤون الدولة تُدار بالمراسيم الرئاسية وفق أهواء قيس سعيّد وشهواته الشخصية، من دون حدّ أدنى من الضوابط الدستورية والسياسية والأخلاقية. وفي هذا السياق، بات يجري على ألسنة السياسيين المعارضين للانقلاب "كلنا مشاريع مساجين"، فمن لم يعتقل اليوم ليس هناك ما يضمن عدم اعتقاله في الغد. وأخيرا، وليس آخرا طبعا، أقدم سعيّد على حبس رئيس البرلمان المنحلّ ورئيس أكبر حزب في البلد (النهضة)، راشد الغنّوشي، بعدما انتهج تكتيك "الاستنزاف القضائي" أي إغراق الرجل بكمّ هائل من الملفات والتحقيقات القضائية التي لا تنتهي، تمهيدا لحبسه، ثم أصدر قضاء سعيّد، في ما يشبه المحاكمة السرّية التي لم يعلم بشأنها الغنّوشي ولا محاموه أو عائلته، بحبس الغنّوشي سنة مع تغريمه ألف دينار ومراقبة إدارية ثلاث سنوات، وهي قضية من بين عشرات القضايا التي فتحها سعيّد ضد الغنّوشي، بما يقدّم مؤشّرا قويا على تدحرج تونس بخطى "ثابتة" نحو ديكتاتوريةٍ مكتملة الأركان والأوصاف.
لم يكن اعتقال الغنّوشي الرجل الثمانيني ورئيس مجلس نواب الشعب المنحلّ ورئيس حركة النهضة خطوة مفاجئة، بالنظر إلى مستوى العنف الخطابي والتحريض السياسي اللذيْن كانا يصدران عن سعيّد ضد الغنّوشي، منذ دخل قصر قرطاج، إذ لا يمرّ أسبوع من دون أن يوجّه سعيّد سيلا من رسائله النارية، المشفّرة وغير المشفّرة، للغنّوشي. ورغم أن الرجل تجنّب الدخول في مهاتراتٍ أو مناكفاتٍ شخصية مباشرة مع سعيّد، إلا أن رفضه المبدئي الانقلاب، ومنذ الأيام الأولى، ووقوفه في وجه العربات العسكرية المنتصبة أمام بوابة المجلس، قد جعله على رأس بنك أهداف سعيّد، وهو الذي ظل يردّد باستمرار أن صواريخه منصوبةٌ على منصّاتها وجاهزة للإطلاق.
أصرّ سعيّد على شخصنة معركته مع الغنّوشي في إطار مخطّط عام يقوم على تجريف الساحة السياسية من القيادات التاريخية، ومن القوى السياسية والاجتماعية الفاعلة، حتى تخلو له الساحة التونسية ويحوّلها إلى ما يشبه المزرعة الخاصة. ولذلك لم تكن عملية الاعتقال مفاجئة للغنّوشي نفسه الذي كان مستعدّا ومتحسّبا لها، لمعرفته الدقيقة بنيات سعيّد وما يبيّته من شر، خصوصا بعد حزمة الإيقافات التي طاولت شخصياتٍ سياسيةً أخرى من الصف الأول، مثل أمين عام الحزب الجمهوري، عصام الشابي، ورئيس التيار الديمقراطي سابقا، غازي الشواشي، وقبل ذلك قيادات وازنة في جبهة الخلاص الوطني، مثل جوهر بن مبارك وشيماء عيسى، وأخرى نهضاوية مثل رئيس الوزراء الأسبق علي لعريض ووزير العدل الأسبق نور الدين البحيري.
إذا كان من الصحيح القول إن الديمقراطية لم تحلّ مشكلات التونسيين، فإن الديكتاتورية عنوان الفشل المكثّف والمضاعف
لقد خبر الغنّوشي سجون تونس في شبابه مع بورقيبة، ثم في كهولته مع بن علي، واليوم يعود إليها في شيخوخته في ظل حكم سعيّد الذي جاء محمولا على كتف القوى الثورية وشعار "التطبيع خيانة"، فإذا به ينقلب على كل موعوداته ويتحوّل إلى ديكتاتور هائج، بعدما استخدم السلم الديمقراطي مطيّة للانقلاب عليه وتقويضه.
خلافا لانقلاب مصر الذي دشّن حكمه بحملة اعتقالاتٍ وقمع القوى السياسية، خيّر سعيّد أن يشتغل على مراحل وفق سياسة الري قطرة قطرة لتثبيت انقلابه على الدستور والمؤسّسات. فقد عمل أولا على تطويع المجال القضائي. وفي هذا السياق، تم حل المجلس الأعلى للقضاء وتنصيب آخر محله، وبموازاة ذلك جرى عزل 57 قاضيا بجرّة قلم في أجواء قصف سياسي وإعلامي واسع، مع التصميم على تركيع من بقي من القضاة مباشرا مهامّه بأدوات الترغيب والترهيب، حتى يتم استخدامهم مخلبا لضرب خصومه وفتح السجون أمامهم، بزعم أن القضاء مستقلّ وهو يمارس دوره المطلوب في تطهير البلاد من "الخونة" و"الفاسدين".
وثانيا: مزيد من إحكام قبضته على الأجهزة الأمنية والعمل على تطويعها عبر سلسلة من عزل القيادات وتنصيب أخرى موالية له، ومن ثم إطلاق أيدي البوليس في مداهمة البيوت وانتهاك الحرمات، وشنّ الاعتقالات الليلية والصباحية وإعداد ملفّات للمعارضين على المقاس تمهيدا لمحاكمتهم. ولهذا الغرض، عزل وزير داخليته، توفيق شرف الدين، الذي كان من رجالات الحلقة الضيقة ممن استخدمهم للبطش بخصومه، ونصب والي (محافظ) تونس السابق المنحدر من إحدى التفريعات اليسارية الوظيفية محله، إذ يرى فيه أكثر وفاءً وأشدّ استعدادا لخوض معارك "المصير" من وزيره السابق المعزول.
ليس سرّا أن قيس سعيّد يحمل ضغائن كثيرة وأحقادا كبيرة ضد الغنّوشي، وربما يعود هذا إلى عقده النفسية إزاء كل الشخصيات الفاعلة في المشهد التونسي. فسعيّد، الطارئ حديثا على عالم السياسة، يرى في الغنّوشي المحاط بحزبٍ قويٍّ ومنظّم عقبة كبيرة أمام طموحاته السلطوية، تضاف إلى ذلك المكانة الفكرية والسياسية التي يحظى بها الغنّوشي في المحيط العربي والإسلامي الأوسع. ويزيد هذا الأمر في احتقان سعيّد الذي يرى نفسه منظرا عالميا يحمل حلولا "سحرية" لكل البشرية، وليس لتونس فحسب، على نحو ما يردّد دوما (ولا أحد اعترف له بهذه الصفة). فقد كتب الغنّوشي في الإسلام والديمقراطية والدولة والمرأة والعلاقات الدولية، وسواء اتفقت مع الرجل أو اختلفت معه، فإنك لا تستطيع إنكار مكانته الفكرية كأحد أهم المنظّرين لتيّار التجديد الإسلامي، بينما لا تعثر على شيءٍ يذكر في الرصيد الفكري لسعيّد، سوى بعض الورقات القانونية المدرسية التي لم تعطِه شرعية، حتى في الوسط الأكاديمي الضيق.
ما حصل من اعتقالات سياسية كان خصما من رصيد الانقلاب ومزيد تهرئته، وما كان إضافة له
ما زاد في هيجان سعيّد وتوتر أعصابه نجاح الغنّوشي في الاندراج ضمن مبادرة تكوين جبهة سياسية عريضة وفاعلة بقيادة شخصية ديمقراطية قوية ووازنة هي نجيب الشابي، وقد كان التقاء الغنّوشي والشابي تحت مظلّة الجبهة كابوسا مزعجا لسعيّد. ولذلك، لم يتردّد في التحريض الخطابي، تلميحا وتصريحا، ضد الشابي نفسه، ثم تسليط سيف القضاء عليه. لكن السؤال الأهم هنا: ما هي المكاسب السياسية التي جناها سعيّد بعد شهر من اعتقال الغنّوشي؟ .. حينما نقوم بعملية جرد سريع لمحصلات اعتقال الغنّوشي، ونستقرئ المشهد العام، لا نكاد نعثر حقيقة على مكسب جدّي يميل لصالح سعيّد في هذه المغامرة السياسية، سوى التنفيس عن أحقاده الشخصية وإشفاء غليل بعض المجموعات الإيديولوجية الوظيفية المتحالفة معه.
كان قيس سعيّد يراهن على تدارك شيء من عزلته الشعبية بإلقاء عظم لأتباعه الموتورين والهائجين، وليقول لهم "أنا الرجل القوي والحاكم بأمره بلا منازع"، بدليل التجرؤ على اعتقال الغنّوشي، بيد أن ذلك لم يثن القوى المناهضة للانقلاب في الداخل والخارج عن الثبات على خطّها السياسي والمطالبة برحيل سعيّد وتنظيم انتخابات رئاسية وتشريعية مبكّرة.
كانت نتائج الانتخابات البرلمانية التي قاطعها ما يقرب من 90% من التونسيين والتونسيات علامة بارزة على رفض مشروع سعيّد وخريطة طريقه التي أراد من خلالها صنع نظام سياسي على مقاسه يحتلّ فيه موقع الإمبراطور المطلق الذي لا شريك ولا منافس له، ولكن ما حصل أن الانتخابات، ومن قبلها دستوره الذي خطّه بنفسه والاستفتاء الإلكتروني، لم تنل الحد الأدنى من القبول الشعبي، ومن ثم لم تعطه الشرعية والمشروعية اللتين كان يحلُم بهما، واليوم لم يمنحه اعتقال الغنّوشي ما كان يأمله باستعادة شيءٍ من قاعدته الشعبية المفقودة، فإذا استثنينا بعض مكوّنات اليسار الوظيفي (المنقسم على نفسه) وبعض العروبيين الفاشيين، فإن جل الأحزاب المعارضة ندّدت باعتقال السياسيين عامة، بما في ذلك الغنّوشي وطالبت بإطلاق سراحهم. أما الرأي العام، وعلى نحو ما يطفو على حديث الناس في المقاهي والمجالس العامة، فلم يكن راضيا عن اعتقال الرجل الثمانيني، وبتلك الطريقة المهينة، رغم ما يبدو من انصراف الناس الظاهري إلى شؤون حياتهم ومكابداتهم اليومية.
ليس سرّاً أن قيس سعيّد يحمل ضغائن كثيرة وأحقاداً كبيرة ضد الغنّوشي، وربما يعود هذا إلى عقده النفسية
في الخلاصة، ما حصل من اعتقالات سياسية كان خصما من رصيد الانقلاب ومزيد تهرئته، وما كان إضافة له. يبدو ذلك واضحا، سواء من جهة ما تولّد عن ذلك من تفاعلاتٍ داخلية، حيث استشعرت المعارضة خطورة مشروع سعيّد السائر نحو الإجهاز على الأحزاب والمنظّمات وخنق ما تبقى من فضاء الحرّيات التي باتت تتقلص يوما بعد يوم، أو على الصعيد الخارجي، إذ توالت بيانات رفض هذا الاعتقال من الاتحاد الأوروبي وألمانيا وفرنسا والولايات المتحدة وغيرها، وإذا استثنينا حكومة ميلوني الإيطالية اليمينية المتطرّفة، لا يوجد داعمون حقيقيون لسعيّد.
لا يحتاج المرء هنا إلى جهد نظري كبير للتدليل على سوءات الحكم الفردي ومفاسده، إذ يكفي نظام سعيد الشعبوي شاهدا ماثلا وحيا على ذلك، فمن أراد أن يعرف قبح الديكتاتورية وفشلها مقابل ديمقراطية هشّة وضعيفة فلينظر اليوم لما يفعله سعيّد.
صحيحٌ أن ديمقراطية تونس لم تكن في وضع مثالي في مرحلة تحوّل عسير ومضطرب، وفي ظل وضع إقليمي متفجّر من حولها، مع الصعوبات الاقتصادية والمالية المرهقة للجمهور، لكن هذه الديمقراطية الناشئة نجحت في حدّها الأدنى في تثبيت مكتسب الحرية للجميع ومبدأ التداول السلمي على السلطة، مع وضع اقتصادي أقلّ ما يقال فيه إنه كان مقبولا ومعقولا. أما ديكتاتورية سعيّد الجديدة فقد نسفت الحرية من دون أن تأتي بالتنمية، بل هي حوّلت الصعوبات التي جاءت بزعم معالجتها، إلى كارثةٍ شاملة. وعليه، إذا كان من الصحيح القول إن الديمقراطية لم تحلّ مشكلات التونسيين، فإن الديكتاتورية عنوان الفشل المكثّف والمضاعف.