الخطاب الإسلامي والنزوع نحو المثاليّة
يعاني الخطاب الإسلامي الحديث من نوع من المثاليّة الحالمة والمنقطعة عن الواقع ومعطيات الاجتماع السياسي الراهن. وربما يعود الأمر إلى أن هذا الخطاب ما زال يتغذّى من الموروث الفقهي "القديم" من دون تمحيص لأثر الزمن فيه، ومن دون أن يعي حجم الهوّة التي باتت تفصل بين ماضي المسلمين وحاضرهم. لا ننسى هنا أن المدوّنة الفقهية والأصولية الإسلامية، خاصة في وجهها السياسي (المعبّر عنها بالسياسة الشرعية) على ثرائها وعظمتها، قد تشكّلت في أوضاع السيادة السياسية للمسلمين وفي سياقات ما قبل حداثية، ومن ثم كانت معبّرة عن أجواء الاجتماع التقليدي ثم صعود السيادة الإسلامية. بيد أن الشرخ الذي مزّق خط الاستمرارية التاريخية الإسلامية، ثم تبدّل أحوال المسلمين وتحوّل مركز السيادة العالمية إلى الأمم الغربية على حساب المسلمين، قد جعل مقولات فقهية سياسية كثيرة غير ذات جدوى، فنقاشاتٌ كثيرةٌ تجري اليوم بين المسلمين بشأن حقوق أهل الذمة وتفريعها وتفصيلها مثلاً لا معنى لها أصلا وفصلا، في وقت تحوّل المسلمون أنفسهم في حالاتٍ كثيرة في وضع أدنى من أهل الذمّة، حتى في المجتمعات الإسلامية نفسها. تجد المسلم المسكين فارّا من بلاد المسلمين التي ضاقت به ذرعاً في حرّيته ودينه ومعاشه، يبحث لنفسه عن موطئ قدم في بلاد الغربة أو في مهجره الجديد، وهو يتحدّث عن حقوق أهل الذمة، وما يجب منحه ومنعه عن أهل الذمّة، وهو واقع يكاد لا يرتقي إلى أهل الذمّة في التاريخ.
وعليه، لا يمكن سحب مقالات الأقدمين على الواقع الحديث، أو استنساخ معالجاتهم السابقة لمعالجة الأوضاع الراهنة للمسلمين. ومن مظاهر هذه الأزمة ما نراه من انفصام هائل يطبع الخطاب الإسلامي، أو الوعي الإسلامي عامة، بين ذاكرة تاريخية عامرة بالأمجاد التاريخية والسيادة السياسية العالمية وواقع يتسم في صورته العامة بمظاهر الضعف والانقسام والتخلف على جميع الصعد. نعم هذا الموروث مهمٌّ من جهة تعزيز ثقة المسلمين بأنفسهم وأنهم ورثة حضارة عظيمة وثرية، ولكن على الجهة الأخرى كثيراً ما يكون هذا الميراث التاريخي حاجباً عن فقه الواقع وفهم تعقيداته، فترى الخطاب الإسلامي يقفز من الحاضر إلى الماضي، ومن الواقع للنصوص من دون وعي بحدود المسافة الفاصلة تاريخا ووعيا، فضلا عن الانجذاب المنفعل إلى الماضي، بل الانخراط في قضاياه وصراعاته ومشكلاته على حساب الحاضر ومشكلاته الراهنة.
مما يميّز الأمم الحيّة قياسًا بغيرها قدرتها على تحريك مختزناتها الرمزية والتاريخية وحسن استثمارها فيما هو مستجدٌّ من أوضاعها
هذا الموروث التاريخي والمعرفي بالغ الأهمية والثراء، وهو من العوامل المهمّة التي كانت وما زالت تحفظ للمسلمين مقوّمات الوجود وتمنحهم الثقة بالنفس، خلافا لأمم أخرى قد جرفتها ثقافة المتغلّب، ولكن حينما يغيب "الحسّ التاريخي" اليقظ في التعاطي مع هذا الموروث يتحول عبئاً ثقيلا على أهله، وحائلا دون إدراك الواقع والارتباط بالعصر. ولجلاء الأمور أكثر، نقول هنا إن المشكل ليس في الموروث ولا في التاريخ في حد ذاتهما، بقدر ما يعود إلى منهج التعاطي معهما، فلا يوجد موروث أو تراث خارج دائرة التأويل وإعادة التأويل. ومن يتابع مجريات الخطاب الإسلامي يلحظ أن لا علاقة لكثير من سجالاته ومماحكاته النظرية بالواقع الراهن للمسلمين، بل هي في الغالب الأعم مستمدّة من سجالات القدامى وقضاياهم، أو هي اجترار بليد لقضايا الآخرين وأجوبتهم، فيجري الاستنجاد بمقالات القدامى ومفاهيمهم بصورة معزولة عن سياقاتها التاريخية والمعرفية، ويجري إسقاطها على أوضاع أخرى مغايرة وضعاً وكيفاً، من ذلك مثلاً استدعاء صراعات قديمة بين مدارس كلامية أو حتى فقهية أضحت عديمة المعنى أصلا، من قبيل الخصومة التاريخية بين المعتزلة والأشاعرة، أو بين السلفيين والمتكلمين، أو بين السلفيين والمتصوفة، وبين الفقهاء والفلاسفة، وحتى معارك السنة والشيعة التي هي في أصلها معارك سياسية وجيواستراتيجية مغلفة بالدين والمذهب، أو إثارة معارك عن الذات والصفات، وبشأن الجزء الذي لا يتجزّأ، والتحسين والتقبيح العقليين، ونظرية الكسب وما شابه ذلك.
ليس كاتب المقال ممن يدعون هنا إلى القطع مع ماضينا المجيد، ولا مع موروثنا الإسلامي العظيم، بقدر ما هي الدعوة إلى التعامل المتبصّر مع هذا الميراث وحسن استثماره وتفعيل مختزناته، مع التمييز الواضح بين ما يدخل ضمن دائرة الإلزامي القطعي وما يدخل ضمن دائرة العفو فيستدعي الاجتهاد وإعمال النظر. كما أنه ليس ممّن يدعون إلى إهدار معاني الدين وإفساد أسس الشرع بذريعة التجديد والتطوير المزيف، بقدر ما يدعو إلى إذكاء روح الفهم المتبصّر وعدم التهيب من النظر والاجتهاد الحي في قضايا ديننا ومشكلات عصرنا.
مما يميز الأمم الحية قياسا بغيرها قدرتها على تحريك مختزناتها الرمزية والتاريخية وحسن استثمارها فيما هو مستجدٌّ من أوضاعها، بحيث يصبح الماضي ملهما للحاضر، والسلف عوْنا للخلف، في حين أن الأمم الفاشلة تجعل من ماضيها عبئاً عليها ومن مواريثها قفصا حديديّا يأسر العقول ويشل الإرادات.
ظلّت روح الانتفاض والرفض تعتمل في أعماق الشخصية الإسلامية، يشتدّ أوارها كلّما برزت بؤرةٌ من بؤر الصراع مع قوى الهيمنة والاحتلال الأجنبي
من أهم المشكلات الراهنة التي تطبع الخطاب الإسلامي المعاصر صرف النظر عن الواقع الحي، والاستعاضة عنه بالحلول الجاهزة. من ذلك أنه كلما واجهت المسلم مستجداتٌ وطرأت في حياته مشكلاتٌ تراه يهرع إلى كتب السلف "لاستخراج" الحلول الجاهزة أو الركون إلى مقولات الآخرين، عوض بذل الوسع في فقه الواقع وحسن تشخيصه. وبدل أن تكون هذه النصوص التاريخية موضعاً للتأمل الثاقب وإعادة الفهم بما يفتحها على أبعاد تأويلية جديدة، فلا حياة للنصوص خارج التأويل وإعادة التأويل بشروطه المنهجية.
كانت المدرسة السلفية نفسها ثورة على التقليد ودعوة إلى الاجتهاد المتحرّر من التعصب الفقهي والانكفاء المذهبي، لكنها تحوّلت، بعامل الزمن، إلى ما يشبه "النّحلة" الطائفية المغلقة، فشيخ الإسلام ابن تيمية مثلا، وقد كان مثالا حيا على روح التجديد والاجتهاد والثورة على التقليد، فضلا عما اتسم به فكره من تركيبٍ بالغ التنوّع والثراء، حوّلت السلفية الجامدة نصوصه إلى سجن يمنع الاجتهاد ويكبح التفكير الحيّ، فتحوّلت أقواله تبعا لذلك إلى ما يشبه المعادلات الرياضية البسيطة والفاقدة للحياة، بدل أن تكون محفّزا على النظر الحر والأصيل. ليس العيب في ابن تيمية، ولا فيما تركه لنا السلف من ثروة فقهية وأصولية نادرة، بل في الذين يحنّطون النصوص ويجعلون قامة الرجال فوق هالة الحقّ.
كما أن هذا التعلق الشديد بالمثل والنماذج التاريخية المنصرمة كثيراً ما يدفع الناس إلى تغليب الطموحات الحالمة على ممكنات الفعل الواقعي، مع ما يتبع ذلك من تشبّث بروح إطلاقية يغيب عنها فقه التنسيب والموازنات بين المصالح والمفاسد أو إرادة فهم موازين القوة الفاعلة. ومن الواضح أن هذه المفارقة الواسعة بين الإمكانات الفعلية للمسلمين وحظوظهم من موازين القوى، وهذه المسافة الفاصلة بين ذاكرتهم التاريخية العامرة بالأمجاد وتطلعّاتهم التاريخية الرفيعة وواقعهم الراهن المحكوم بالانقسام والوهن ذات أثر مزدوج، فهي من جهة تدلّ على أن أمة العرب والمسلمين، رغم ما أصابها من انكسارات، أصرّت على إثبات نفسها في هذا العالم، لم تستسلم لميزان القوة الغاشم، ولم تخر قواها أمام إرادة الهيمنة الدولية الماسكة بزمام البأس العسكري والمنعة السياسية والقدرة الاقتصادية، خلافا لأمم أخرى أكثر قوةً، ولكنها سلّمت للمنتصر بحقّ السيادة عليها، ورضيت بوضع التابعية له على نحو ما حصل مع أمم أكثر قوةً وبأسا من المسلمين. ولكن، من الجهة الأخرى، كثيرا ما يتحوّل هذا الإحساس المفعم بعظمة الماضي وضخامة الطموحات التاريخية عبئاً على الحاضر الراهن.
الطموح التاريخي الجيّاش الذي يغمر كيان كل مسلم قد يكون مدمّراً إن لم يقترن بحالة وعي تاريخي بحسن فهم قوانين التاريخ وسنن الاجتماع البشري
ما يفسّر حالة الانفجار الواسعة التي يشهدها عالم الإسلام بجغرافيته الواسعة وشعوبه المتنوعة تلك الذاكرة التاريخية العامرة بالأمجاد، والتي تتحوّل، في بعض الأحيان، إلى طاقة انفجارية غير منضبطة، ما أغرى أقلاماً غربية كثيرة بالحديث عن مقولة صراع الحضارات، فضلا عن اتهام الإسلام بأنه دينٌ يحرّض على العنف وإهدار الدماء وإزهاق الأرواح.
ولعله لهذه الأسباب ترى عالم الإسلام يفور بموجات الرفض وحركات المقاومة، ما أن تنكسر الواحدة حتى تليها الأخرى، حيث ظلت روح الانتفاض والرفض هذه تعتمل في أعماق الشخصية الإسلامية، يشتدّ أوارها كلما برزت بؤرةٌ من بؤر الصراع مع قوى الهيمنة والاحتلال الأجنبي في هذا الموقع أو ذاك من العالم الإسلامي. ولولا روح التضحية الهائلة هذه، التي يختزنها المسلمون، لاندرس ما تبقى من مقومات وجودهم وشخصيتهم على غرار الهنود الحمر في أميركا الشمالية وأمم أخرى بائدة لم تقو على تحدّي ميزان القوى الذي فرضه عليها ذوو الشوكة والبأس، ولعل صمود أهل فلسطين اليوم يقدم مثالا حيا على هذه الروح الحية المتيقظة في مواجهة قوى الجبروت والهيمنة.
الخلاصة هنا أن عالم الإسلام وقواه المتحركة تمتلك طاقة بذل واسعة وإرادة عطاء هائلة قلّ نظيرها بين أمم العالم الأخرى، وهو معطىً مهم في حماية هوية الأمة والدفاع عن كيانها في وجه قوى الجبروت الدولي، ولكن هذه الطاقة في حاجة ماسّة إلى أن تتعاضد مع فن تشخيص الواقع وفهم معطياته المركّبة والمعقدة، وإلا تحوّل الأمر إلى فعل أهوج لا يفرّق بين الممكن الفعلي والممكن الخيالي، كما أن هذا الطموح التاريخي الجيّاش الذي يغمر كيان كل مسلم قد يكون مدمّراً إن لم يقترن بحالة وعي تاريخي بحسن فهم قوانين التاريخ وسنن الاجتماع البشري.