ماذا عن الخمسين؟

21 اغسطس 2015

تفكير وتأمل (Getty)

+ الخط -

كتب الزميل أمجد ناصر، في هذا المطرح، مقالته الأسبوعية الاثنين الماضي (معترك المنايا)، عن سن الستين الذي وصل إليه، حدّق في هذه المحطة بحذاقة، ومرّ في الأثناء، على الأربعين، ولكن ليست محطة عبرها قبل عشرين عاماً، بل بحسبانها نقلةً خاصة في مسار العمر، ولم يرُقْه، في الأثناء، قول شاعر إننا بعد الأربعين سواء، فردَّ عليه بنزْر من الغضب: كلا، لسنا بعد الأربعين سواء. لم يعطِ أمجد سن الخمسين أيَّ التفاتة، لم يكترث له، رآه عدداً من السنوات لا ميزة فيه، ليس انعطافياً، من مزاجٍ إلى آخر مثلاً، أو من شعورٍ بالزمن وجريانِه إلى شعور آخر بشأن مرور السنوات، وجريانها هي الأخرى، سريعةً على الأغلب، أو بطيئةً، بحسب ما كان فيها وما لم يكن.

قفزة الشاعر أمجد ناصر من الأربعين إلى الستين، وتجاهله سن الخمسين، مسوّغ "حركشة" هذه المقالة معه، إذ تحاول أن تعيد إلى إطلالة الخمسين عاماً في عمر أيٍّ منّا حقها الذي أضاعه صديقنا عن عمد، وتقصّد بيّن. ولمّا كنت قد وصلتُ، قبل شهور فقط، إلى هذه المحطة، فإني أُجيز لنفسي طلب "حق عرب" من أمجد، إذ كيف أَوْدى بها، ولم يتفضّل عليها، ولو بمفردة في مقالته غير القصيرة، وأوْلى الأربعين أهمية غير هيّنة، وساجل بشأنها، وأنفق جهداً ظاهراً في تعيين ما قد يعنيه وصوله إلى الستين عاماً، وكأن أهل الخمسين أقلُّ كعباً، وأدنى من أن يتلطّف عليهم بأي إشارة، لا لشيء إلا لأنهم ليسوا ستينيين ولا أربعينيين. مع أن قرائن دلائل وبراهين، علمية ونفسية، توضح أن سن الخمسين، والذي يسمّونه، أحياناً، منتصف العمر، هو النقلة الأهم من مرحلةٍ إلى أخرى. إنه التدشين الأول إلى التقدم في السن، إنه بدء السنوات التي تسبق الشيخوخة. وعلى ما يفيد أهل الاختصاص، إنه، أيضاً، بداية بلوغ المرأة سن اليأس. ولدى الرجل هو بداية المناوشات مع الاكتئاب، أو موجاته وارتداداته، غير الحادة بالضرورة. وثمّة من يقول إن سن الخمسين هو المنعطف الأهم في علاقة الزوج بزوجته، نفسياً وجنسياً وشعورياً، ولذلك، يحتاج إلى انتباه خاص، وإلى وجوب أن يحمي من يدخل إليه مزاجه من هبوب ما ليس محموداً ولا طيباً، مما قد يخرّب تفاصيل غير قليلة في حياته التي استقرّت على إيقاع ومسار معيّنين.

كل هذا وغيره، وأمجد ناصر يُشيح قلمه عن الخمسين التي مرّ بها، ولم يحدّث قرّاءه بشيء عنها، ماذا كان فيها، وما إذا كانت قد استوقفته، في غضونها، أسئلة عن سنواتٍ مضت، وأخرى منتظرة. أكتب هذا، وفي ذاكرتي أن أصدقاء عديدين طالما افترضوا أن التعقّل والحكمة والحصافة وزنة الأمور بما ينبغي أن توزَن به لم يبدأ معهم (أو ربما هذا ما توهّموه) إلا مع الخمسين، أو مشارفها. وهنا، أجيز لنفسي الإفتاء بما لا أعرف إن كان علماء النفس يعلمونه أو لا يعلمونه (لا حاجة للتواضع في مساجلة أمجد؟)، فأقول إن المنعطفات النفسية الأهم لدى الرجل تبدأ مع الخمسين، كما المنعطفات الجسدية والبدنية لدى المرأة تبدأ معها أيضاً. وأزعم أن الأربعين مجرد طوْر في الشباب، يمكن حسبانه الثاني أو الثالث، فيما الستون عبورٌ إلى طور التقاعد، ما يعني إيذاناً بشيخوخة مرتقبة، أو غير بعيدة. أما الخمسون فمرتبةٌ مركزية في العمر، انتقالية، وقد جاء في تجارب مشاهير في غير حقل وشأن، في العلوم والفنون والآداب مثلاً، أنهم أنجزوا ابتكاراتهم ومنجزاتهم الأهم بعد الخمسين، ذلك أن التشكل الثقافي والوجداني لديهم تيسّر فيهم في سنوات الأربعين، ما منحهم قدراتهم وبراعاتهم التي تميّزوا بها لاحقاً. وحتى أصدّ، هنا، ركلةً من أمجد في هذا الخصوص، أُبادر بالتنويه إلى أن ثمة استثناءات في هذا كله.

هناك قرائن أخرى غير قليلة، يمكن التسلّح بها في "معترك المنايا"، في إعلاء شأن سن الخمسين، في مواجهة من يظنون أن شأو الستين أعلى، وشأن الأربعين أهم، وإذا أراد الصديق أمجد خوضاً أمضّ في هذا الأمر (وغيره؟)، فهذا هو "الميدان يا حميدان". 

 

معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.