ماذا بعد الكوليرا في سورية؟
"ضرورة اتّباع إجراءات وسلوكيات الصحة العامة مثل غسل اليدين، شرب المياه من مصدر آمن، غسل الفواكه والخضار بشكل جيد، طهي الطعام وحفظه بدرجة الحرارة المناسبة، عدم شرب أو تناول أي شيء مجهول المصدر أو يشك بسلامته، إضافة إلى أهمية طلب المشورة الطبية المبكرة في حال الاشتباه بالإصابة"... هذا ما جاء من توصيات للمواطنين، في بيان وزارة الصحة السورية في دمشق، من أجل الوقاية من جائحة كوليرا محتملة، والحدّ من تفشي المرض.
كانت الكوليرا، قبل أربعة عقود تقريبًا، تتفشّى بين الناس، وتسبّب جائحة في كل عام، وكانت المشافي تغصّ بالمصابين، كما كانت تقدّم لهم الرعاية والعلاج اللازمان، بالرغم من وقوع المؤسّسات الصحية الحكومية في مستنقع الفساد كغيرها، وكانت هناك اللقاحات التي تقدّم بالتعاون مع منظمة الصحة العالمية، لكن الكوليرا آلت إلى التراجع، وأن تصبح شبه غائبة، ما خلا ظهورها أحيانًا على شكل محدود، ما إن تظهر حتى تتم محاصرتها ومنعها من أن تكوّن جائحة، هذا في وقت كان يمكن لغالبية الشعب السوري أن تحصل على مياه شرب نظيفة، أو على الأقل معالجة بالكلور، وعلى الطاقة اللازمة بشكل أساسي للحياة، كغاز الطبخ الذي كان متوفّرًا وبسعر مقبول، بل رخيص نسبيًّا. وهذا لا يعني أن الشعب السوري كان يعيش في نعيم، وأن انتفاضته لم تكن سوى زوبعة حرّكتها أيادٍ خارجية في إحداث المؤامرة الكونية على سورية من أجل تحويلها إلى دولة فاشلة. ومن المؤسف أنها تحولت إلى دولة فاشلة ومجتمع فاشل، إنما في الواقع كان لديه ما يفوق مبرّرات الانتفاضة على واقعه، كان يفتقر إلى أهم ما يرفع قيمة الحياة إلى مستواها الإنساني: الحرية، والكرامة، وحق القول والتعبير، عدا أمور كثيرة أخرى.
مع تطوّر البشرية وتعقد حياتها، وما نجم عن هذا التعقيد من ضرورة الحياة وإدارتها، نحا مفهوم الصحة إلى أن يصبح مفهومًا عامًا تعتبر الدول مسؤولة عنه، وتبلورت فكرة أن الصحة شأن عام مع انطلاق منظمة الصحة العالمية عام 1946، والتي وضعت مفهوما اجتماعيا للصحة ونشرته، يقوم على اعتبارها حالة من اكتمال السلامة بدنيًا وعقليًا واجتماعيًا، وليست مجرّد "انعدام المرض" مثلما كان شائعًا فيما مضى.
الفرد السوري محروم اليوم من مياه الشرب الموثوق بها في أغلب المناطق السورية، زيادة على افتقاره إلى المياه بشكل عام
انطلاقًا من هذا المفهوم الذي أقرّته المنظمة، تم الاعتراف بالصحة حقا من حقوق الإنسان يجب التمتع به من دون التمييز على أساس العرق أو الدين أو الجنس أو المعتقد السياسي أو الظرف الاجتماعي أو الاقتصادي. واستمرّت منظمة الصحة في تطوير برامجها وتوسيع الحقول المتعلقة بالصحة، ومنها ما جاء في إعلان مؤتمر جاكرتا 1997 الذي أضاف متطلبات "السلم والمسكن والتعليم والأمن الاجتماعي والعلاقات الاجتماعية والغذاء السليم والمياه النقية للشرب، والدخل وتمكين المرأة والاستخدام الدائم والعادل للموارد والعدالة الاجتماعية، واحترام حقوق الإنسان"، مشيرًا إلى أن الفقر هو أخطر ما يهدد الإنسان. ما أبعدنا عن هذه المعايير، ليس اليوم فقط، بل قبل ربيع بلداننا.
ها هي منظمة الصحة العالمية تحذّر من أن خطر انتشار الكوليرا في سورية مرتفع للغاية، فهل هذا يكفي؟ ما معنى التحذير أو دقّ ناقوس الخطر، بينما لا يملك الفرد السوري من أدوات الوقاية من المرض، أو الحفاظ على صحته وصحة أبنائه، ما يجعل من الخطر أمرًا قابلًا لمواجهته؟ الفرد السوري محروم اليوم من مياه الشرب الموثوق بها في أغلب المناطق السورية، زيادة على افتقاره إلى المياه بشكل عام من أجل النظافة الشخصية والاستحمام والغسيل وجلي الأطباق، وغسل الخضار والفواكه، فيما لو استطاع إليها سبيلا، لا يستطيع غلي المياه التي يعرف أنها قد لا تكون صالحةً لهذه الاستخدامات، فغاز الطبخ غير متوفر إلّا بالمشقّة والانتظار، عدا تكلفته التي لا يستطيع تحمّل ثمنها حتى في الحد الأدنى من الاستخدام، بل هناك ظاهرة تتفشّى، عدا الاعتداء على الغابات للحصول على الحطب للتدفئة والحصول على طاقة بديلة من أجل الأمور الحياتية. وبواقع الحرب التي جعلت منظومة القيم تنهار، بات لدى الأفراد ما يبرّر ارتكابهم السرقة أو التعدّي على المُلك العام أو الخاص، وراحوا يعتدون على البساتين والكروم، فيقطعون الأغصان من أجل الحصول على الحطب، وهذا ما يقلق أصحاب الكروم الذين ينتظرون الموسم كل عام من أجل عيشهم، فصار بعضهم ينام فيها.
لكي تكون هناك خطة قابلة للتنفيذ وذات جدوى، لا بدّ من التعاون بين الحكومة والمجتمع، فإذا لم يكن لدى المواطن ما يجعله قادرًا على حماية نفسه وبيته، فكيف سيكون لديه ما يؤهّله لأن يساهم في تعزيز الوقاية وحماية الصحة العامة؟
ليست الكوليرا المرض الوحيد الذي يهدّد المجتمعات السورية، بل هناك العديد غيرها، في ظل انعدام الحد الأدنى من الخدمات الضرورية لصون الصحة
"أدّى التأخير في تنفيذ محطّات المعالجة على ساحة محافظة السويداء المزمع إقامتها منذ سنوات إلى تحويل كثير من الأراضي الزراعية لمستنقعات للمياه الآسنة جرّاء تنفيذ خطوط الصرف الصحي ضمنها من دون إنهاء محطات المعالجة التي من المفترض أن تكون المصب الرئيسي لتلك الخطوط". .. هذا ما جاء في تقرير لصحيفة الوطن السورية، عن لجوء بعض المزارعين في السويداء إلى ريّ مزروعاتهم بمياه الصرف الصحي، ويصفهم التقرير، على لسان بعض الأهالي كما جاء فيه، بأنهم "ضعاف النفوس"، فهل صحيحٌ أن الإنسان يهوى ويرغب في أن يكون ضعيف النفس، يرمي بقيمه وأخلاقه عرض الحائط، من أجل التكسّب؟ لم يكن الإنسان السوري في العموم هكذا، بل كانت الغالبية تنبني حياتها على القيم التي شكّلت الضامن الوحيد لها، لكن التهديد الوجودي المتفاقم، وانعدام سبل المحافظة على الحياة، ولو بحدّها الأدنى، جعل الناس يجنحون نحو سلوكياتٍ كهذه. إنها "عزّة الروح" في المعنى الشعبي، فعندما تستحيل الحياة إلى تهديدٍ لحظيٍّ بالجوع والمرض من دون أن تقدّم الجهات المعنية ما يدعم المواطن في وجه هذا التهديد، يتغيّر سلوك الناس، بل تصبح الذرائعية الناظم لهذا السلوك، وسقاية المحاصيل بمياه الصرف الصحي ليس في السويداء فقط، بل في مناطق عديدة، منها حلب.
ليست الكوليرا المرض الوحيد الذي يهدّد المجتمعات السورية، بل هناك العديد غيرها، في ظل انعدام الحد الأدنى من الخدمات الضرورية لصون الصحة وضمان الحياة بشكلٍ يستطيع الإنسان أن يكون معه فاعلًا ومنتجًا. هناك القمل والجرَب اللذان يستشريان في أماكن التجمعات التي لا بدّ منها، كالمدارس ودور الحضانة، والمعاهد والمعامل وغيرها. هناك الأمراض التنفّسية التي تنشط في الأجواء الباردة، حيث لا يمكن تأمين وسائل التدفئة. هناك الأمراض الإنتانية الهضمية التي تنتقل عن طريق الأطعمة الملوّثة أو مجهولة المصدر. هناك ما لا يمكن عدّه في سورية المنكوبة بكل مناطقها وأجزائها، فما الذي تستطيع منظمة الصحة العالمية أن تقدّمه لضمان هذا الحق: حق الصحة؟ صار الشعب السوري، في غالبيته المطلقة، ما عدا من أسعفهم الحظ ووصلوا إلى دولٍ تحفظ دساتيرها حق اللاجئين وتمنحهم فرص العيش الكريم والعمل والمساعدات، مهدّدين في كل شيء، مهدّدين في مستقبلهم ومصيرهم وصحتهم ورقيّهم، صاروا يعيشون في ظروفٍ لا يمكن وصفها، في الداخل "المقسّم" بكل مناطقه، وفي المخيمات، التي تشكل نقطة عار في ضمير العالم، في عصرنا الحالي.