مأساة أم ملهاة؟
"إذا أردتَ أن تصمُد للحياة فلا تأخذها على أنها مأساة".. عبارة موجزةٌ قرأتُها بتوقيع الكاتب الراحل توفيق الحكيم مكتوبةً في لوحةٍ أنيقة بحجم متر في متر، معلقة على جدار فصلٍ مدرسي. كنت مدعوّةً لزيارة ذلك الفصل من المعلمة الشابّة التي أرادت أن تعرّف طالبتها، وهنّ في آخر سنةٍ من سنوات الدراسة الثانوية، على كاتبة تحبّها. شكرتُ المعلّمة على دعوتها اللطيفة، قبل أن أسألها عن تلك اللوحة التي يندُر أن نجد مثلها في فصل دراسي لطالباتٍ في مقتبل العمر.
قالت إنها طلبت من الطالبات تزيين الفصل بعباراتٍ لبعض الكتاب منذ بداية العام الدراسي، وإنهن فعلن واخترن بعض المقولات لكتّابهن المفضلين وغيرهم، لكن اللوحات الورقية التي كتبت عليها تلك العبارات قد تمزّقت مع مرور الأيام، ويبدو أن لوحة توفيق الحكيم هي التي نجت وحدها، وما زالت صامدةً بوجه لهو الطالبات وشغبهن أحياناً، وربما لأن المقولة قد أعجبتهن أكثر من غيرها، فقرّرن المحافظة عليها.. واتخاذها دستوراً لهن في المدرسة على الأقل!
كان اللقاء مخصّصاً لسماع الطالبات الموهوبات وهن يقرأن بعض ما كتبْنه من قصص قصيرة وقصائد وخواطر ومقالات، لأعلق عليها على سبيل التشجيع. ورغم أنني انغمستُ بتلك المهمة الجميلة سعيدة بالمواهب الرائعة، إلا أنني كنت ما زلت أفكّر بعبارة توفيق الحكيم عندما ودّعتهن بعد نهاية الوقت المخصص للقاء.
هل الحياة مأساة فعلاً؟ وبالتالي، يطالبنا الكاتب بأن نتجاهل طبيعتها تلك، لنستمرّ في العيش والصمود؟ كيف يمكننا أن نفعل ذلك، وأن نقلب المأساة فيها إلى ملهاة، إن كان هذا هو المعنى الحقيقي للنصيحة التي يبدو أن توفيق الحكيم، إن كان قد قالها أو كتبها فعلاً، فإنه فعل ذلك في نهايات عُمره، وبعد أن عاش حياته بكل تقلّباتها ما بين المأساة والملهاة؟ أم أن الحياة ملهاة حقيقية، ولذلك اقترح توفيق الحكيم أن نكتشف حقيقتها المختبئة تحت ركام المشكلات اليومية لنحاول العيش فيها كما يليق بها وبنا؟
ليست الحياة على هذا النحو من التعقيد الذي رسمه لنا فلاسفةٌ ومفكّرون وكتّابٌ كثيرون تبريراً ربما لفشلهم في حلّ ما يرونه لغزاً، كما أنها ليست بتلك البساطة التي تعيش فيها مخلوقاتٌ أخرى، غير البشر، فلا تكاد تفقه منها غير ضروريات العيش أكلاً وشرباً وتزاوجاً.. لكنها، من وجهة نظري على الأقل، مجرّد تجربة على سبيل العبور، بغض النظر عن تفاصيل تلك التجربة. وهي كأي تجربةٍ لا بد أن تكون خاصة وفردية جداً، حتى وإن قدّر لنا أن نعيشها جميعاً مع بقية البشر، وبغض النظر عن درجة اقترابنا أو ابتعادنا عنهم. نحن وحدنا المسؤولون عن كيفية عيشها، وإن اختلفت مقاديرنا فيها وفقاً لما رسمه الله لنا فيها.
لكن نصيحة توفيق الحكيم التي بدت لي أول وهلة غير مناسبة أو غير معتادة في فصل دراسي لطالباتٍ لا يتعدّين الثامنة عشرة من أعمارهن أجمل من أن تكون مجرّد نصيحة عابرة لكاتبٍ اعتاد على الإثارة ومشاكسة قرّائه بكل ما يظنه غريباً وعجيباً. فهي، كما أقرأها الآن، نوعٌ من التشجيع على التفكير، بمعزل عن كل ظروف عصيبة خارجة عن إرادتنا، يمكن أن تشكل عائقاً لنا وتقف حجر عثرة بيننا وبين أحلامنا بأي عمرٍ نعيشه.
ومن حسن الحظ أن طالباتٍ شاباتٍ لم يغادرن مقاعد الدراسة يستطعن أن يفكّرن في هذا المعنى السهل الممتنع يومياً، وهن يقرأن تلك العبارة لعلّهن يكتشفن أن الحياة الحقيقية هي الحياة التي نرسمها لأنفسنا ونعيش تفاصيلها كما نشتهي، وإن على سبيل الحلم بعيداً عن الواقع، فالحلم حياة جميلة أيضاً، تستحقّ أن تُعاش ولا ينبغي أن تكون مجرّد جهد مهدر على هامش العمر!