لين التي أطفأت الشمس بيدها
من يطفئ الشمس ماما؟ كانت ابنتي تسألني كل ليلة، لاعتقادها أنّ ثمّة يداً تضغط زرّاً ما في السماء، كما أضغط أنا زرّ الكهرباء في الغرفة، مستبدلةً نور النهار الساطع بنوّاسة القمر الخافتة التي لا يكفي نورُها لإخافة الأشباح التي تطلع كلّ مساء من جحورها السرّية. وإذ أحاول أن أشرح لها الأمر "علمياً" بالقول إنّ الشمس لا تنطفئ ولا هي حتى تغيب، بل إنّنا نحن، سكّان الأرض التي تدور، من ندير لها ظهورَنا لكي ننام، كانت لا تقتنع بإجابتي أو لا تعقلها، فتُخبرني بأنّها سوف تطرح السؤال على جدّتها، فهي أكبر منّي سنّاً ولا بدّ أدرى. ولست أدري لما كنت أستاء هكذا من ردّ فعلها، أبسبب ما كانت تُظهره من قلّة ثقة بما أقوله لها، أم هي فكرة أن تعتقد ابنتي أنّ ثمّة من هو قادر على إطفاء شمسها، هي التي لم تكُن تحتمل العتمة لحظةً، حين لا أكون لصيقة بها، ذلك أنّ الوحوش المخيفة تحبّ العتمة لا يطردها إلّا نور الشمس الساطع وصخب النهار...
لا أعرف لما عادت إليّ هذه الذكرى وأنا أقرأ عن مأساة الطفلة لين طالب، الطفلة اللبنانية التي لم تتمّم عامها السادس بعد، ولم يكفِ أنها تعرّضت لاغتصابٍ وحشيّ ومتكرّر من خالها الذي اتضّح أنّه متحرّش بالأطفال، إذ تآمر عليها كذلك أقرب الناس كي لا يُفتضح سرّ المجرم، فيُسمح لها أن تُنقل إلى المستشفى للعلاج وتُتاح لها النجاة. ولين التي عاشت في العتمة الكاملة نحو خمسة أيام، مرعوبة، موجوعة، ممزّقة، لا بد وأنّها أدركت بسرعة أنّ هؤلاء الذين وجب أن يحموها هم في النهاية جلادوها، وأنّهم في الواقع لا يعبأون بعذاباتها ولا بمصيرها، إذ تبدّى أنّهم يبذلون ما بوسعهم لحماية الجلاد من أن يعاقَب على فعلته، وأنّهم يناورون ويتحايلون كي يُسكتوها هي الضحية، ويمحوا دماءها، ويخبّئوا جراحها، لا بل يحاولون إقناعها بأنّ الرعب الذي عاشته أمر يجب تناسيه، والتصرّف من ثم كأنّ شيئاً لم يكن.
أدركت لين هذا كله بحدْسها، فهمته بعينيها وأذنيها، وحزرته في تعابير والدتها وملامح جدّيها ونظرات الحيوان المتوحّش الذي كسر ذراعها، وبقّع روحها بالكدمات، وكمّ فاها. ثم تأكدّت من مناوراتهم وخططهم الملتوية وقسوتهم المخيفة حين صحبوها جميعاً إلى مدينة الملاهي علّها تنسى، تتناسى، تمحو وتتغاضى، فكم من طفلةٍ قبلها تعرّضت لمثل هذا، ثم أُسكتت فسكتت. لكنّ لين لم تصمِت، لين تحدّت وتحدّثت، وإن لم تفتح فاها. لقد رفضت أن تنصاع لرغبتهم بأن تبتلع وتتغاضى، فامتنعت عن الأكل والشرب، وعطّلت كلّ وظائف جسدها وأصابتها الحمّى، وإذ نقلوها إلى الطبيب، خوفاً من أن يقال إنّهم لم يقوموا بما يجب، هسترت ورفضت أن يقربها أيٌّ كان. كانت لين قد قرّرت أنّها انتهت منهم، وأنّها لن تكون بعد اليوم ابنتهم، وأنّها بموتها، سوف تتحرّر منهم، وبموتها سوف تعاقبهم. أجل، يمكن لنا أن نتصوّر أنّ لين، وقد أصابها ما أصابها، وتكشّف لها وجهُ والدتها وقسوتُها، قرّرت أن ترفض هبة التي ولدتها ثم تخلّت عنها عند انفصالها عن والدها، ثم عادت وخانتها حين انحازت إلى المجرم على حساب ابنتها. لين لم تستوعب كيف أنّها لم ترَ أمّها تنشب أظافرها في وجه أخيها المعتدي، أو تهدّد بتسليمه إلى الشرطة، أو تلطم نفسها قهراً وعجزاً، أو تحملها لتهرب بها، أو تخفيها حيث يمكن حمايتها والاعتناء بها، أو تحضنها وتواسيها.
كيف عرفت هذا كلّه؟ يكفي أن نستمع إلى تصريحات والدتها إثر وفاة الصغيرة، مقدرتها على الكذب من دون أن يرفّ لها جفن أو تدمع لها عين. هذه ليست امرأة أجبروها على الكلام، فليتها على الأقلّ لاذت بالصمت، ولم تعتلِ الخشبة لتغسل يديها أمام الملأ، من دم ابنتها البريئة.