ليس بسيطاً أن ترحل مها جديد

09 ديسمبر 2020
+ الخط -

ليس أمراً بسيطاً أن ترحل السورية، مها جديد عن عالمنا الرديء هذا. هي ابنة المعارض محمود جديد، وخالها صلاح جديد الذي وُضع في السجن أكثر من عشرين عاماً وخرج لملاقاة ربه! هذا وحده يضع مها وأبناء هذه العائلة ضمن خانة المراقبة والمتابعة الأمنية المستمرّة، ويدفع بهم إلى حساباتٍ دقيقةٍ لأيّة ممارسات وأفعال وأفكار أيضاً؛ فكيف لها ولهم أن يتحرّكوا في أجواء كهذه؟ مع ذلك، كانت مها، وكل من عرفته من عائلتها وزوجها وأخيها مثالاً للحب والأخلاق والصدق، وتقديم كل أشكال المساعدة. لم تتأخر مرّة عن المساعدة لأصدقاءٍ كثر، ومحاولة تأمين فرص عمل إن أمكنها ذلك؛ ولم تكن لترفض فكرةً قابلة للتطبيق، وتتوخّى قياسها بمعايير الوطنية والأخلاق وإعانة الأشد فقرا، وسوى ذلك مرفوضٌ قطعاً. مقاييسها هذه كانت تتبدى في أي نقاشٍ خضناه وعملنا من أجله، رفضاً للاحتلال الأميركي في العراق، ورفضاً للعولمة ولسياسات الليبرالية والاستبداد والكيان الصهيوني. سيدة لا تنام على خطأ أو مالٍ ليس لها، أو مشكلة لم تُحَل.

لا أعرف كيف نتجاوز كل هذا الحب، وهل ممكن ذلك من أصله؟ كان بمقدور مها وزوجها أن يتركا البلاد، حيث غير تهجير ملايين السوريين، فمئات الآلاف فضلوا الرحيل لمكانٍ آمن؛ إلى أوروبا، سيما أن العدد الأكبر من عائلتها في الخارج، وهي لا ترى والدها إلا بشكلٍ متقطع، ومرّة كل عدة سنوات. لم تكن لتفكّر بالأمر مليّاً، فكان خيارها إعانة الناس المهجرة إلى اللاذقية، ومن كل المدن السورية. هناك بدأت عملها الجديد مع الناس بعد 2011، وقدّمت ما استطاعت إلى ذلك سبيلها؛ ومَن عَمِلَ معها أو استفاد من عملها، يتكلم حزناً على تلك السيدة المعطاءة، التي لا مثيل لها بالأخلاق ومتابعتها وتدقيقها كل تفصيل يخصّ المحتاجين، وما أكثرها، وتبدأ بتأمين وجبات الطعام ولا تنتهي بالطبابة والملابس والمسكن.

كانت تقبل النقد، وتنتقد بقوة أيضاً، وتتراجع حينما يتبيّن أنها لم تكن على صواب

 

يكتب هذه الأيام أصدقاء ومعارف كثر عن مها. "فيسبوك" يعزي بها على الصفحات كافة، ومن هؤلاء من هو معارض أو موال أو بين بين. الجميع يتفق على أخلاقياتها، ودقة أعمالها. ليس بسيطاً في بلادٍ غارقةٍ بالفساد والنهب والانحطاط الأخلاقي واستسهال الارتزاق والاستفادة الشخصية من منظمات المجتمع المدني أن تجد شخصيةً تنطلق من حاجات الناس المهجّرة أولاً، ومن رفض أي تبعيةٍ لمصادر التمويل أو سياساتهم أو الاستفادة منها ثانياً، وثالثاً محاولة كفّ "الشبيحة" عن سرقة المساعدات التي اعتادوا عليها! 

كان لمها قدرة عالية على التخطيط والإدارة والمتابعة، وهذا ما كانت عليه في المعهد الفرنسي في دمشق، ولاحقاً في مركزٍ للتدريب والتأهيل على مهارات متنوعة، وكذلك في عملها التطوعي في اللاذقية، وفي سواه. مصيبتنا أن تلك القدرة لم يتم الاستفادة منها بأيّ وجهٍ، فظلّت قدراتها تلك حبيسة دوائر عملها الخاص، بينما كانت الاستفادة الحقيقية ستتم لو سلِّمت منصباً عاماً، ولكن هيهات هيهات لمن يشبه مها أن يعيّن في منصبٍ عام، أو يُعطى فرصةً في دولة الفساد والاستبداد. نعم مها خسارة وطنية سورية بامتياز.

كان لها مع المعتقلين السياسيين وقفات محبة واهتمام ومساعدة، والتي لم تكن لتجهر بها أبدا

حزينة ومبتسمة ومتقدة الذهن، هكذا رأيتها أوّل مرّة مع الصديق الراحل سلامة كيلة في أحد معارض الكتب، وهما يحملان الكثير منها. ومنذ ذلك الوقت، لم تتغير طباعها أبداً. غير ذلك، كانت تقبل النقد، وتنتقد بقوة أيضاً، وتتراجع حينما يتبيّن أنها لم تكن على صواب، ولم تكن لتشعر بالتفوق حينما يكون الآخر على خطأ. يمكنك أن تختلف معها بألف قضية، ولكن لا يمكنك أن تشعر نحوها بالغضب، ربما فقط، وبسبب مبدئيتها، بالمسألة الوطنية والانطلاق منها، كان بعضهم يشعر بالضيق والغضب، وبالتالي الابتعاد عن هذه السيدة التي لا ترحم مقاييسها تلك.

كان لها مع المعتقلين السياسيين وقفات محبة واهتمام ومساعدة، والتي لم تكن لتجهر بها أبداً، وهي مسألةٌ حساسةٌ في ظلّ نظامٍ يحرمهم بعد اعتقالٍ، قد يمتد عقودا، من الحقوق المدنية، وبالطبع السياسية، حيث لا سياسة فاعلة في ظلِّه. وبالتالي، كل من يتعامل مع هؤلاء "المنبوذين" أو يهتم لشؤونهم هو مشبوه أيضاً. أن تتخذ موقفا كهذا، يعني أن تضع نفسك في مواجهة السلطة بكل بساطة، وأية سلطة! سيدة شديدة الحساسية ورافضة كل أشكال الاستبداد والفساد، وعائلتها الكبيرة والصغيرة عانت الأمرّين، منذ أيام الصبا وحتى الوفاة، كيف لها ألّا تكون كذلك، ولكن أيضاً المسألة خاصة بمها، وبتكوينها الأخلاقي والوطني أولاً.

شديدة الحساسية ورافضة كل أشكال الاستبداد والفساد، وعائلتها الكبيرة والصغيرة عانت الأمرّين

خسارة سورية برحيل مها جديد كبيرة، وهي التي لم تتجاوز الخامسة والخمسين عاما. كما أظهرت قدرة على التخطيط والمتابعة، كان يمكن أن تفعل الأمر عينه في المستقبل حينما تبدأ المرحلة الانتقالية. هناك قدرات سورية ممتازة في المجالات كافة، ولكن مها مميزة بتلك المهارات وبالجوانب الأخلاقية والوطنية، وهذا يُسجل لها بكل تأكيد. رحيلها يحرمنا الاستفادة منها في المستقبل، وليس الآن فقط، وكما لم يتم في أعوامها السابقة كذلك.

يُتمنا بكل معنى الكلمة من سندٍ أخلاقيٍّ ووطنيٍّ. كانت مرجعيتنا في هذه القضايا، حتى مقاييسها تلك تحنُّ إليها، هذا قبل 2011، فكيف وقد انحطّت أوضاع سورية إلى مدارك خطيرة في العقد الماضي! أغلبية من عرفها يلفّه الحزن هذه الأيام، وهذا حق مها علينا.

لروحها كل السلام، ولزوجها المميز ولعائلتها الصغيرة ولسورية كل العزاء.