ليسوا أبناء الثورات!

18 مايو 2021

(ماحي بينبين)

+ الخط -

تعرّضت الثورات العربية إلى هزائم وانكسارات، لكنّها لم تُهزم هزيمةً نهائية، ولم تشهد نهاية تاريخها بعد. ما زالت حاضرة، بطموحاتها، مؤثرة بوعيها، مقلقة بعودة مرتقبة، ومحتملة، كما تشير إلى ذلك خطابات الأنظمة نفسها. كسبنا وخسرنا، كسبنا تجربة أثبتت "إمكانية" إزاحة ديكتاتوريات راسخة، بعدما كان ذلك مستحيلاً. قبل يوم واحد من اشتعال الثورة، كسبنا جيلاً جديداً، نشطاً، مسيساً، يقرأ، ويتابع، ويشارك، قدر ظرفه وإمكاناته، ويتطلع إلى غد مختلف، ويدفع خصومه، رغماً عنهم، إلى إصلاحاتٍ خدميةٍ وتنموية، لإرضاء السواد الأعظم من الناس، واختطافهم من طموحات أبنائهم. كسبنا جدلاً واسعاً لم يتوقف حول الحريات، السياسية والاجتماعية، ومدى ملاءمتها لمجتمعاتنا ومعتقداتنا، وتاريخنا وواقعنا، وهو الجدل الذي يبدو، للوهلة الأولى، محسوماً لصالح الماضي، إلاّ أنّ وجوده بهذه القوة والاستمرارية يبشّر بمستقبل. كسبنا وعياً نقدياً، ما زال في طور التشكّل، لا يسمح بالتسليم لأيّ سلطة من دون مساءلة، ودفعنا ثمن ذلك كله، أضعافاً مضاعفة؛ دماً، واعتقالات، واغترابات، ومرارات؛ دينية وسياسية واجتماعية، وعذابات روحية ونفسية لا تنتهي، وهو ما يجعل من حراسة المكاسب القليلة أمراً واجباً، نظراً إلى تكلفتها العالية.
عادت القضية الفلسطينية إلى واجهة الاهتمام العربي، بعدما كاد الربيع العربي يحتل مكانها ومكانتها. عادت البوصلة، والقضية المركز، وعادت معها طموحات التحرّر، وخطابات المقارنة بين الاحتلال الصهيوني وحلفائه من المحتلين المحليين، الأمر الذي لا يخلو من تثوير. عادت جدالات القضية، أكثر زخماً من ذي قبل، وهو مكتسبٌ آخر من مكتسبات ما بعد الثورات... وإخفاقاتها.
بعضنا طرح خطاباتٍ مغايرة، ناقدة للمقاومة، ليس لجهة المبدأ، طبعاً، إنّما من حيث السبل والطرق والسياسات ومدى فاعليتها وجدواها، وبعضنا ناقش هذه الخطابات واشتبك معها، وبعض خصومنا ركب عليها واستغلّها وحاول تمرير انحيازاته للعدو من خلالها، وبعضنا زايد، وبعضنا رفض. وبعضنا وصم أصحاب هذه القراءات النقدية، وساوى بينهم وبين الصهاينة العرب واعتبرهم خونة وعملاء، وطالب بتجريدهم من شرف الانتساب للقضية، ومارس اغتيالات معنوية عليهم، واستهدف شخوصهم وولاءاتهم الدينية والسياسية والأخلاقية، واستدعى خطابات تعبوية وإقصائية وفاشية تنتمي إلى مرحلة ما قبل الثورات. وجدنا من شباب الربيع العربي من يتورّط في خطابات تشبه خطابات دولة يوليو في مصر، وبعث الأسد في سورية، وبعث صدام في العراق، خطابات الصوت الواحد والرأي الواحد، خطابات تجريم الاختلاف، واعتباره خيانة، خطابات "لا صوت يعلو..." تحت دعاوى الغيرة على الدين والوطن والقضية والمقاومة والشهداء! هنا تغيب الثورة بوعيها، بطموحها، بتجربتها، بثمنها، ويحضر خصومها، بسياساتهم وخطاباتهم ومقرّراتهم، وآلتهم القمعية، وما أودعوه فينا، قسراً، ولم نستطع تجاوزه، بالكلية هنا، مزيداً من المرارات والجهالات والعداوات والنزاعات، المجانية، ومن ثم الفشل المؤكد.
لا يمكن أن يختلف عاقلان على "عدالة القضية الفلسطينية" وحقوق الفلسطينيين في أرضهم وبيوتهم. يواجه الفلسطينيون، وحدهم، دولة دينية، واحتلالاً عسكرياً، وتهجيراً قسرياً، وفصلاً عنصرياً، وترسانةً من أسلحة الكذب والتضليل، وتحالفاتٍ إقليمية ودولية، تدعم ذلك كله، وتبرّره، وتمرّره، وتعيش به وعليه، وتتكسّب من ورائه، سياسياً واقتصادياً. المقاومة، هنا، ليست وجهة نظر، لماذا نقاوم ليس سؤالاً، لكن كيف نقاوم؟ هو السؤال، بألف ولام التعريف. الاختلاف، هنا والآن، يتجاوز كونه مقبولاً إلى كونه واجباً، لا صوت يعلو فوق صوت المعرفة، والاستفادة من التجربة، والاستثمار في المكابدة. المقاومة وجهات نظر، وآراء، وخطابات، ومسارات، علينا أن نجعلها متوازية، ومتنوعة، ومتعدّدة، في إطار من وحدة المقاومة نفسها.
نحتاج، هنا، أن نقول، بوضوح، إنّ الأصوات الحماسية، غير المسيسة، أخطر على القضية من خصومها، وإنّ الفصل، المتوهم والمتعسّف، بين الثوري والسياسي، أخطر على أصحابه من الاحتلالين، الوافد والموروث. نحتاج أن نقول، بشجاعة، إنّ تغيير الواقع يبدأ من فهمه، ممكناته وإكراهاته، وهو ما يفتقده أغلب "أبناء الثورات العربية". في السياسة "الثابت" الوحيد هو "المتغيرات"، ولم تنتصر الأنظمة الاستبدادية لأنّها الأقوى، بل لأنّها الأكثر وعياً. مهمٌّ أن نعترف، والأهم أن نتعلّم.