عن وضوح النظام المصري ولفّ ودوران خصومه

30 يوليو 2024

الرئيس المصري السيسي في كلمة مصوّرة في افتتاح "الحوار الوطني" (3/5/2023 فرانس برس)

+ الخط -

ليس من قبيل المبالغة أن نقول إنّ النظام الحالي في مصر هو أكثر الأنظمة وضوحاً في ممارساته، وأحياناً في خطاباته، فهو واضحٌ في استهدافه معارضيه في حيواتهم بالقتل، أو بالإخفاء القسري، أو بالسجن، وفي استهدافه أمانهم واستقرارهم وأرزاقهم بالنفي خارج البلاد، طوعاً أو كُرهاً، أو الفصل التعسّفي من العمل، أو "تسييب" كُتّاب النظام في الفضائيات، وتيوسه المستعارة في مواقع التواصل الاجتماعي، لنهش سمعة المُعارِضين، وتشويههم، واتهامهم في دينهم أو في وطنيتهم، وقطع الطريق أمام وصولهم إلى الناس بأيّ وسيلة، ولو كانت ديوان شعر على نحو ما حصل أخيراً مع أحمد دومة، بعد نشره ديوان "كيرلي" (دار المرايا للثقافة والفنون، القاهرة، 2024)، من فتاوى تكفير حكومية عقاباً له على مُجرّد الكتابة، ولناشره على مُجرّد النشر، وليس طبعاً بسبب محتوى الديوان، الذي لا يسمح وقت حضرة الضابط (أو مستوى تعليمه) بتحصيله.
النظام أيضاً واضحٌ في أغلب خطاباته، خاصّة بعد الوصول إلى نقطة اللاعودة في فشل النظام، وتأكّد هذا الفشل، ووصوله إلى المواطن في البيت وفي الشارع، وفي الأكسجين الذي يتنفّسه المواطنون بعد خصم ضريبة قطع الأشجار. ولا يعني إصرار إعلام النظام على تذكيرنا بأنّنا في نعمةٍ لا ندركها، وبأنّ الأمن والأمان أكثر أهمّية من الحرّيات، ومن كرامة المواطن، ومن قيمة العملة الوطنية، وأكثر أهمّية من الكهرباء، وبأنّ الإخوان المسلمين هم سبب المصائب كلّها، أقول لا يعني ذلك كلّه أنّ النظام يفتقر إلى الصراحة، فالنظام صريحٌ وفق مفاهيمه، فالأنظمة الدكتاتورية بوضوح، والممارسات الدكتاتورية بوضوح، يلزمها خطابات دكتاتورية بوضوح. ولا معنى هنا لتقييم الخطابات وفق معايير الصدق أو الشفافية أو حتّى الاحترافية، فهي خطابات صادقة جدّاً في تزويرها، شفّافة جدّاً في قبحها، واحترافية جدّاً جدّاً في إصابة منتصف جبهة الأمل لدى أيّ مواطن، ولا يتجاوز النظام صراحته إلى خطاباتٍ هزليةٍ عن الحرّيات أو الديمقراطية أو إمكانية التغيير بالانتخابات أو أهمية الحوار الوطني، إلا إذا لزم الأمر، ووجب استرضاء صاحب التوكيل في البيت الأبيض، أو تهدئة الشارع بعد وصوله إلى مرحلة ما قبل الانفجار بخطاب رئاسي واحد. في هذه الحالات الاستثنائية، يتجاوز النظام المصري الحالي صراحته غير المسبوقة، إلى هزليّته غير المسبوقة، ويفتح مُكرهاً ثغرةً في جدار فولاذي من الصراحة القاتلة، تسمح بمرور أشياء أخرى غير البارود الميري وأوامر الاعتقال.
من هنا، تبدو خطابات خصوم النظام أو معارضيه غير مفهومة في لفّها، وغير مفهومة في دورانها، وغير مفهومة في طموحاتها، وغير مفهومة في تأويلاتها وتعويلاتها. خذ مثلاً موضوع الحوار الوطني، وقد تورّط كاتب هذه السطور في مقاربته بجدّية يوماً، أملاً في انفراجة لا يصحّ لنصف عاقلٍ انتظارها من النظام المصري الحالي، بعد سنواتٍ من ممارسات دكتاتورية واضحة تماماً، إذ لا نظام دكتاتوريا يتحاور، ويتفاهم، ويرى غيرَه. هذه قواعد، لا استثناءات لها، إنّما إكراهات أو تسويات تخصّ النظام نفسه، فتدفعه إلى بعض المساومات، التي تتّخذ تسميات دعائية مثل الانتخابات أو الحوار الوطني... إلخ.
يطرح النظام ما يسمّيه حواراً وطنياً لمساومة بعض الرهائن السابقين في إطلاق سراح رهائن حاليين، في مُقابل مُجرّد الموافقة على التعامل مع النظام، فتنطلق خطابات مُعارِضة في التعريف بالحوار الوطني، وسوابق التجارب في البلاد الجادّة، وطبيعة الموضوعات التي تناقش مع الأنظمة المُحترمة أو نصف المُحترمة أو ربع المُحترمة... إلى آخر ذلك كلّه، ممّا لا مجال لمناقشته أو مُجرّد تخيّل وجوده مع النظام الحالي. ما يسمى هزلاً بـ"الحوار" فرصة لإطلاق سراح مئات المظلومين، من دون أيّ التزامات بعدم اعتقالهم مرّة أخرى، أو بعدم اعتقال آلاف غيرهم، أو بعدم اعتقال المشاركين في الحوار الوطني أنفسهم، فإمّا القبول، ومن ثمّ محاولة توسيع الثقب قدر الممكن، أو الرفض، وتسجيل الرافضين أسماءهم في كشوف الوجاهة السياسية، مع استمرار حبس المحبوسين، إلى أجل غير مُسمّى.