ليست مجرّد لعبة... خطر كرة القدم الأكبر

30 يناير 2024
+ الخط -

"ما بؤوش شبهنا" المدون واليوتيوبر المصري ردّدها كثيراً وبعصبية في أثناء حديثه عن نتائج منتخبه لكرة القدم في بطولة كأس أمم أفريقيا المستمرّة حالياً. قد تبدو الجملة عادية باعتبارها صدرت من شخصٍ ممتعضٍ من الأداء الكروي لمنتخب بلادِه، إلا أنها في الحقيقة تلخّص الكثير في علم تحليل الهوية ونشوئها، فالمنتخب يمثل البلد وأبناء البلد. وعليه، يجب أن يكون مشابهاً لأبناء البلد، لا في الشكل فقط، بل أيضاً حتى في الخصوصيات السيكولوجية والتحرّكات داخل الملعب. ولإيضاح النقطة الأخيرة، أستعين بجزءٍ من مقالةٍ كتبها مختصٌّ بالأنثروبولوجيا لخّصت أن أداء لاعبي أي منتخبٍ يُستمدُّ بالضرورة من ظروف (وهوية) البلد الذي خرجت منه، وأعطى الكاتب مجموعة من الملاحظات عن أسباب كثرة المراوغة في منتخب البرازيل الذي خرج معظم لاعبيه من الأحياء الفقيرة المكتظّة التي تتطلب قدراتٍ ومهارات للمراوغة اثناء المشي والركض داخل احياء الصفيح. وبالمثل، يمكن القول إنّ المنتخب الألماني عُرف بالانضباط التكتيكي نتيجة طبيعية لمجتمع منظم قائم على صناعة تحتاجُ كثيراً من الدقّة والتأنّي والانضباط.
وعليه، يكون المنتخب الكروي، ومنه منتخب بلدي العراق الذي يلعب حالياً في منافسات قارّة آسيا انعكاساً لطبيعة البلد وأبنائه في حالة من التمثيل على مستوى "تحت – تحت"، بمعنى آخر من الشعب وإلى الشعب، وهذا ما يتيح لنا الشعور بتمثيل هويّتنا ضمن محفلٍ تتنافس فيه الهويات الأخرى على امتيازٍ يمثل اعترافاً بالتفوّق، وفي هذا المحفل تنصهر الهوية الرياضية لأي منتخب مع الهوية العامة للبلد، الأمر الذي قد يفسّر أسباب إطلاق تسمياتٍ مثل "الفدائيين" على منتخب فلسطين و"النشامى" على منتخب الأردن، و أيضاً أسباب إطلاق هتافات وأغانٍ من قبيل الغيرة العراقية القريبة إلى الغرينتا الإيطالية في المعنى.
يوفّر الانصهار بين الهويّتيْن، الرياضية والمجتمعية، حاجة نفسيةً مهمّة لا يمكن لأيٍّ منا العيش من دونها، هذه الحاجة هي الانتماء، وكما جاء في هرم ماسلو الخاص بالحاجة الإنسانية، لا يمكن للفرد أن يعيش من دون الشعور بالحبّ المتبادل وتحقيق الذات والانتماء إلى كيان أوسع يتيح له امتيازاتٍ ويفرض عليه التزامات. وقد تكرّر هذا الأمر أيضاً عند جون بورتن، حيث الحاجة الإنسانية ترتكز على الهوية والاشتراك... وبالعودة إلى المنتخبات الرياضية، فإننا نشعُر بنوع من الارتباط العاطفي والاشتراك يدفعنا إلى التشجيع والشعور بالفخر نوعاً من الاعتراف وتحقيق الذات، وهذا يفسّر التفاخر بين الجماهير بتحقيق الإنجازات عند النقاشات الرياضية، سواء على صعيد الجماهير أو المحللين الرياضيين داخل غرف الأستوديوهات.

لا يعدّ شعور الانتماء إلى جماعة معيّنة اختيارياً بالطريقة التي يتصوّرها بعضهم، فكل واحد منا أدلج عبر منظومة الأسرة والمدرسة والقبيلة ورجال الدين

وهكذا، يصنع المنتخب، بتمثيله هوية أبناء البلد، حالة من الالتزام والتوقّعات، فالهوية والانتماء تُحدثان نوعاً من الالتزام بسلوك معين مقابل العضوية في الجماعة، وترتبط التوقّعات، بالضرورة، بطبيعة الظروف القائمة، فلا يمكن لجماهير بلدٍ مفكّك سياسياً ومنهار اقتصادياً أن ينتظر فوز منتخبه ببطولةٍ تشارك فيها منتخباتُ دولٍ أكثر استقراراً وازدهاراً سياسياً، ونتائج الدورات الأولمبية، حيث التمثيل الأوسع على مستوى الرياضات تظهر تفوّق الدول الأقوى اقتصادياً وتراجع الدول الأقل إنتاجاً اقتصادياً مع هامش من الاستثناءات، وهكذا يُذكّر فوز العراق بكأس آسيا عام 2007 بوصفه حدثاً إعجازياً حقيقياً حوّل أفراد المنتخب إلى نماذج يتمحور حولهم شعور الشباب بالفخر وتحقيق الذات والانتماء. 
ولأنها ليست مجرّد لعبة، فإنّ المنتخب لا يمثل فقط انعكاساً لهوية البلد، بل كيان يمكن أن يصنع هوية جديدة، فأعضاء المنتخب في الحقيقة نماذج يمكن أن تدخل في سرديات الشعب اليومية. ولتبسيط الأمر أكثر، لا يعدّ شعور الانتماء إلى جماعة معينة اختيارياً بالطريقة التي يتصوّرها بعضهم، فكل واحد منا أدلج عبر منظومة الأسرة والمدرسة والقبيلة ورجال الدين، ليكون عنصراً جيداً في هويةٍ ما، وعمود هذه الأدلجة السرديات القائمة على قصص لنماذج بعضُها حقيقيٌّ والآخر غير حقيقي، تُحدث شعوراً بالفخر، وتربطنا عبر اللاوعي بكيان الهوية المنتقاة، وتضع لنا حدود الالتزام والتوقّعات الذي يجب السير عليه، ويمثل لاعبو المنتخب، في بعض الأحيان، تلك النماذج التي يمكن أن تؤثر على سلوكياتنا نوعاً من الارتباط بالهوية.

أساس نجاح أي منتخب رياضي وشعبيته في قربه من الجمهور والشعب، أنّ عليه أن يكون شبَهنا، تتمحور حوله أمانينا

وعليه، لعبة كرة القدم في حقيقتها أهم مما يتصوّر بعضهم، فهي ليست مجرّد رياضة ترفيهية، بل هي محرّكٌ للهوية وبطريقة تفاعلية تصنع وتتأثر بالالتزامات والتوقعات. ستُذكر واحدة من أكثر الأغاني الرياضية العراقية شعبوية في التسعينيات، حينما ردّد المغنّي "إن تكن لعبة لهم فإنها لنا قتال" ومن دون الخوض بطبيعة التحشيد الشعبي السهل الذي تتيحه كرة القدم، أذكر أن لاعبين كثيرين في العالم باتوا اليوم قادة مهمّين وملهمين في مجتمعاتهم، ولعل أهمهم جورج وياه في ليبيريا الذي تسلم قيادة بلدٍ كان حتى فترة ليست بعيدة ساحة واحدةٍ من أبشع الحروب الأهلية، فمن منا لا يريد أن يكون وياه اللاعب الغني المشهور والرئيس المحبوب؟ 
مكمن الخطورة في كرة القديم هو في قدرتها على تقديم نماذج غير صحّية يمكن أن تؤثر على بناء هويات الأجيال المقبلة، فالتمثيل الرياضي عموده المهارة والكفاءة والإقناع، وكذا الحالة المفترضة مع التمثيل السياسي، القائم نظرياُ لا عملياً، على الإقناع والمهارة اللذين يدفعان المواطن إلى صندوق الاقتراع، وإذا ما كانت هذه النماذج قد وصلت عبر الغشّ والتزوير في الأعمار وصلة القرابة، فإنّ الفرد منا سينتابه شعوران: الأول الخذلان ورفض هذا التمثيل، والثاني إيجاد حالة من اللاوعي بأنّ الوصول إلى القمة والمجد لا يمكن أن يتحقّق إلّا عن طريق الغش.
وأخيراً، أساس نجاح أي منتخب رياضي وشعبيته في قربه من الجمهور والشعب، أنّ عليه أن يكون شبَهنا، تتمحور حوله أمانينا، يعكس واقعنا، يضمّ في صفوفه أبناء الشعب، المحلي منه أو المغترب، بعيداً عن أيِّ تدخلٍ سياسيٍّ أو مليشياوي. هكذا تكون المثاليّة التي تبنى عليها سردية التفوّق المفترضة في بناء هوية شعب واستدامتها ضمن حدود دولةٍ ما.