الدجاج والديمقراطية الأميركية ... المصلحة أولاً
تسجّل الولايات المتحدة، وبحسب مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها، 1.35 مليون إصابة بحالات تسمّم ببكتيريا السالمونيلا كل عام، تتسبّب هذه الإصابات بدخول 26500 شخص إلى المستشفى، يموت 420 مصاباً في عموم الولايات سنوياً. وبحسب المركز أيضاً، فإن الغذاء هو مصدر معظم هذه الإصابات، وتحديداً الدواجن التي تتسبّب وحدها بـ23% من حالات التسمّم بالسالمونيلا. ووفقاً لتقديرات رسمية، فإن واحداً من كل 25 منتجاً مرتبطاً بلحوم الدجاج معروض للبيع في الاسواق الأميركية يحتوي على بكتيريا السالمونيلا.
وأسوة بالسالمونيلا، منتجاتٌ عديدة في الأسواق الأميركية ملوّثة ببكتيريا الإيكولاي، ووجد تحقيق صحافي (2011)، أن نحو نصف الدجاج المعروض للبيع في المحال والأسواق الأميركية ملوّث هو الآخر بهذه البكتيريا التي تتسبّب بإصابة عشرات الآلاف ومقتل العشرات كل عام. ومع هذا الكم الهائل الذي يدلّل على مشكلة تلوث اللحوم والبيض بهذه البكتيريا القاتلة، إلا أن الولايات المتحدة، وبكل مؤسّساتها الرسمية، لم تتمكّن من إيقاف هذا التلوث، نتيجة غياب التشريعات التي تتيح ملاحقة الشركات المنتجة.
وعلى النقيض من المشرّعين الأوروبيين، أخفق أعضاء الكونغرس عقوداً في الدفع بقوانين تتيح ملاحقة شركات الدواجن ومعاقبتها نتيجة الضغوط التي تمارسها اللوبيات المرتبطة بهذه الصناعة على المشرّعين. وتملك صناعة الدواجن واللحوم والبيض 26 لوبيا مسجّلا بشكل قانوني في الدوائر الحكومية الأميركية، وتموّل هذه اللوبيات، بالإضافة إلى لجان العمل السياسية ذات الصلة بالصناعة، الحملات الانتخابية لمرشّحين عديدين وبملايين الدولارات، نظير منع تشريع القوانين التي قد تضرّ بها، الأمر الذي يقلل حظوظ مرشّحين على حساب مرشّحين آخرين.
أخفق أعضاء الكونغرس عقوداً في الدفع بقوانين تتيح ملاحقة شركات الدواجن ومعاقبتها
أموال الأغنياء باختلاف صناعاتهم وتوجّهاتهم تلعب دوراً مهماً في السياسة الأميركية لضمان ديمومة مصالحهم وأرباحهم. وفي بداية مارس/ آذار الماضي، هزّت تصريحات النائبة الأميركية كيتي بورتر الوسطيْن السياسي والإعلامي الأميركيين بقولها إن السباق الانتخابي لمجلس الشيوخ في كاليفورنيا، والذي حاولت الفوز فيه "سرق عبر المليارديرات". وعقب الضجّة بيوم، عادت لتوضح، عبر حسابها في موقع إكس، إن استخدامها مصطلح "Riggrd" (يترجم إلى العربية بمعنى سرقة)، كانت تقصد به "التلاعب عبر وسائل غير صادقة".
بورتر التي تملك شعبية لا بأس بها وسط الجمهور الديمقراطي الليبرالي في ولاية كاليفورنيا، خسرت السباق الانتخابي الديمقراطي الداخلي عقب ما قالت إنها سلسلة من الهجمات الإعلانية الانتخابية استهدفتها بتمويل من أغنياء أرادوا لها الفشل. والحقيقة أن تصريحات بورتر تدلّل على حجم المشكلة التي تواجه الديمقراطية الأميركية منذ سنوات، وتحديدا منذ رفع قيد الإنفاق لما يسمّى السوبر باكس أو لجان العمل السياسية الكبرى في العام 2010، وبقرار قضائي. والسوبر باكس لجان إنفاق مستقلة بمبالغ غير محدّدة تجمع من أموال شركات ونقابات وجمعيات وأفراد تتولى عملية الدفاع بشكل علني لصالح أو ضد مرشّحين سياسيين. وعلى النقيض من لجان العمل السياسي التقليدية، يُحظر على لجان العمل السياسي الكبرى التبرّع بالمال مباشرة للمرشّحين السياسيين، ولا يجوز تنسيق إنفاقها مع إنفاق المرشّحين الذين تستفيد منهم. لهذا هي تتولّى الإنفاق على حملات إعلانية انتخابية يتعرّض كثير منها للمرشّح المنافس.
وتتولّى "السوبر باكس" الحملات أو الهجمات بالمعنى الأدقّ، ضد المرشّحين الذين لا يتوافقون ورؤى هذه اللجان التي تعمل على دعم مرشّح آخر يتوافق وسياسات المتبرّعين قطعا. وفي مثال شركات الدواجن، فإن المتبرّعين يدعمون المرشّحين الذين يتوافقون ورؤى الشركات التي تُحمّل المستهلك مسؤولية تعقيم المنتجات من التلوث البكتيري عبر الطهي الجيد من دون سنّ قانون يجبر هذه الشركات على ضمان سلامة المنتجات من التلوث.
يعتبر الفوز في الانتخابات الأميركية بتنوّعها من أكثر الانتخابات كلفة عالميا
وبالعودة إلى بورتر واتهاماتها، من المهم معرفة أن حجم الإنفاق على حملتها الانتخابية بلغ أكثر من 30 مليون دولار، وهذا الرقم يقلّ بكثير عن حجم الأموال التي أنفقت في حملة نظيرها الفائز في الحملة أدم شف التي وصلت إلى ما يزيد على 51 مليون دولار.
ويعتبر الفوز في الانتخابات الأميركية بتنوّعها من أكثر الانتخابات كلفة عالميا. وبحسب موقع أوبن سيكرتس، حجم كلفة الفوز للمرشّحين لمجلس الشيوخ في العام 2018 بلغ 15.8 مليون دولار، وهي كلفة يبدو أنها ارتفعت مع اتّساع حجم التضخّم في الولايات المتحدة خلال السنوات الست الماضية. وفي مثال آخر قريب، فاز المرشّح الديمقراطي سوزي (أبيض)، على المرشّحة الجمهورية مازي (أميركية إسرائيلية من أصول إثيوبية) في الانتخابات الاستثنائية لمقعد لونغ آيلند في مجلس النواب لمدينة نيويورك، والذي ظلّ شاغرا بعد إقالة النائب الجمهوري جورج سانتوس عقب فضيحة مدوية تتعلق بكذبه بخصوص أصوله وتحصيله الدراسي. وفي هذه الانتخابات التي تعدّ مؤشّرا أوليا لنتائج الانتخابات الرئاسية والنصفية المقبلة، فاز المرشّح الذي أنفق، هو وداعموه، أموالاً أكثر، حيث أنفق سوزي وداعموه 13.8 مليون دولار لإعلانات حملته، في مقابل صافي إنفاق من المرشّحة الجمهورية بلغ 8.1 ملايين دولار، ويتوقّع أن تسجل قيمة الإعلانات في الانتخابات الرئاسية هذا العام هي الأخرى رقما قياسيا في حجم الإنفاق يتجاوز الـ15.9 مليار دولار، وفق ما ورد في تقرير لصحيفة الغارديان البريطانية.
وأخيراً، هذا الإنفاق، وإنْ يبدو لبعضهم غير أخلاقي، ويتعارض مع المصلحة العامة لصالح مصلحة خاصة لفئةٍ من أصحاب المليارات، قانوني ولا يتعارض والديمقراطية الأميركية. وقبل أن أختم، عليّ أن أقتبس قول أحد الزملاء الصحافيين المقرّبين: "الديمقراطية هي حكم الشركات".