ليبيا .. ماذا في الأفق؟
كان إعلان المفوضية العليا للانتخابات قرار تأجيل الانتخابات شهرا متوقعا، فلم تكن الظروف مهيأة، ولا العوامل المساعدة على التنفيذ كافية، لإتمام العملية الانتخابية، ولتعود الأوضاع إلى المربع الأول، أعني عودة عقيلة صالح إلى رئاسة البرلمان، فيما استعاد عبد الحميد الدبيبة موقعه رئيسا لحكومة الوحدة الوطنية. وفي المقابل، تواصل الجدل السياسي الحاد الذي تسوده الاتهامات المتبادلة والتنازع بين القوى المختلفة.
عندما اختار منتدى الحوار السياسي الليبي الذي عُقد في جنيف تحت إشراف أممي أن يضع أجندة سياسية تنفذ في مدى زمني قصير، تقوم على تشكيل حكومة للوحدة الوطنية، وتمهد لإجراء انتخابات رئاسية في نهاية عام 2021، يبدو أنه لم يقرأ جيدا الأوضاع الليبية، ومدى توفر الشروط اللازمة لإنجاح العملية السياسية، خصوصا في جانبيها القانوني والسياسي. لم تكن البلاد تتوفر على دستور نهائي، وإنما تحتكم إلى وثيقة دستورية مؤقتة منذ 2011، ولا توجد نصوص قانونية توضح صلاحيات الرئيس الذي سيتم انتخابه وتحدّدها، سيّما مع استمرار الخلاف بشأن "مسودة الدستور" المقترحة، والتي ظلت حبيسة الأدراج ورهينة الخلافات، ولم تعرض على الاستفتاء الشعبي منذ سنوات.
لا توجد نصوص قانونية توضح صلاحيات الرئيس الذي سيتم انتخابه وتحدّدها
وضعية قانونية مضطربة استغلها رئيس البرلمان، عقيلة صالح، لصياغة قانون انتخابي على مقاس حلفائه السياسيين، وفي مقدمتهم خليفة حفتر، ما أثار جدلا واسعا ونزاعا حادّا، خصوصا مع مجلس الدولة وبين القوى السياسية المختلفة. وما زاد في توتّر المشهد ترشّح شخصيات جدلية هي ذاتها جزء من الأزمة الليبية أكثر من كونها سبيلا لإيجاد حلٍّ دائم للأزمات والسير نحو استقرار البلاد. وكانت المفوضية العليا للانتخابات ذاتها قد أشارت إلى تعقد العملية الانتخابية، حيث أكّدت، في بيانها، أن مرحلة الطعون الانتخابية شكّلت منعطفا خطيرا في مسار العملية، بسبب قصور التشريعات فيما يتعلق بدور القضاء في مسألة الطعون والنزاعات الانتخابية. وهذا ما فسّر عدم إعلان المفوضية عن القائمة النهائية للمرشّحين. وفي المقابل، لعبت الأمم المتحدة دورا سلبيا في إدارة المشهد الليبي، من خلال مبعوثها المستقيل يان كوبيتش، الذي بدا عاجزا عن إيجاد توافقات سياسية بين القوى الليبية المتنازعة بما يسهل صياغة قانون انتخابي يحقق الحد الأدنى من التوافق بينها، بل وزاد في إرباك المشهد، حين استقال هذا المبعوث الذي كان يعمل من جنيف، وبدا بشكل واضح أنه عاجزٌ عن إدارة الملف الليبي قبل شهر. ورأى مراقبون أن كوبيتش كان موقنا باستحالة إجراء الانتخابات، وأراد عدم تحمّل مسؤولية ذلك.
ومع إعلان التأجيل عادت المناكفات السياسية في ظل عودة المرشّح عبد الحميد الدبيبة إلى موقعه رئيسا لحكومة الوحدة الوطنية التي اعتبرها بعضهم، خصوصا شق رئيس البرلمان عقيلة صالح، حكومة منتهية الصلاحية، باعتبار أن مهامها تنتهي بتاريخ 24 ديسمبر/ كانون الأول 2021، تاريخ الانتخابات التي تأجلت، فيما استند المدافعون عن بقاء الحكومة إلى فكرة أن عمر الحكومة المتفق عليه في ملتقى الحوار السياسي 18 شهرا، ويجب أن تسلم السلطة إلى حكومة منتخبة من الشعب، وهو ما لم يحصل.
هكذا وجدت ليبيا نفسها أمام خطر العودة إلى المربع الأول، وهو تخوّف مشروع، عبرت عنه جهات دولية وأطراف محلية، فلا شيء في الأفق يضمن إجراء الانتخاب في غضون شهر، كما جاء في بيان التأجيل الذي أعلنته المفوضية العليا للانتخابات، وليس هناك أي مؤشرات لتغير الأوضاع أو تبدّلها، بما يضمن توفير الظروف اللازمة لإجراء الانتخابات الرئاسية بشكل ديمقراطي وشفاف.
خيّبت القوى السياسية ومعها زعماء المليشيات آمال الليبيين التي كانت منعقدة على الوصول إلى حالة من الاستقرار، والعودة الى مسار ديمقراطي سلمي
وفي ظل إعلان المفوضية الوطنية العليا للانتخابات حل اللجان الانتخابية في المناطق المختلفة، بات من الواضح أن عوائق إجراء الانتخابات لم تكن فنية بقدر ما هي سياسية وقانونية، ترتبط أساسا بالخلافات الحادة بين الطبقة السياسية الليبية. وربما كان قرار تعليق إجراء الانتخابات مناسبةً لمزيد الحوار بين الليبيين، وفي الوقت نفسه، شكّل فرصة لبناء تحالفاتٍ بين شخصياتٍ وقوى متنازعة، وهو ما يمكن استنتاجه من اللقاءات أخيرا بين شخصياتٍ ليبيةٍ كانت تبدو على طرفي نقيض، كما تجلى الأمر في اللقاء أخيرا بين وزير الداخلية السابق فتحي باشاغا والمرشح خليفة حفتر في بنغازي، بما يوحي بوجود رغبة لإيجاد تحالفات سياسية، ربما تكون مناهضة لرئيس حكومة الوحدة الوطنية الدبيبة، المرشّح القوي للانتخابات المقبلة.
لقد خيّبت القوى السياسية ومعها زعماء المليشيات آمال الليبيين التي كانت منعقدة على الوصول إلى حالة من الاستقرار، والعودة الى مسار ديمقراطي سلمي، يساهم في بناء الدولة وإصلاح ما دمرته الحرب، غير أنه من الواضح أن المصلحة الفئوية الضيقة والعقلية المليشياوية التي تحكم أذهان بعضهم ما زالتا عائقين أمام استعادة دولة ليبيا استقرارها ووصولها إلى بر الأمان.