لن أكتب عن كأس العالم
لقد قرّرت، وأنا بكامل قواي العقلية عدا الجسدية، أن أمتنع عن الكتابة عن بطولة كأس العالم لكرة القدم بمجرياتها الرياضية، أو التعليق عليها، حيث لا أدّعي الخبرة، ولا حتى في حقل اختصاصي، وهو السياسة، حيث تتحفّز كل حقول الألغام الصديقة والشقيقة والمعادية لتصيّدك حياً أو ميتاً.
لن أكتب عن أول بطولة بهذا الحجم تُقام في دولة عربية، مُعتبراً جدلاً أن هذه الخطوة قد تُمثّل تقدّماً وانفتاحاً نسبيين في سياسات مؤسساتٍ دولية تقودها منذ تأسيسها إراداتُ ليست متمتّعةً بصفة الانفتاح في الأصل، وبعد أن تحاشت تلك المؤسسات، القائمة على الكتلة الجلدية التي تبيض ذهباً، وأطلق عليها لقب كرة القدم، الاقتراب من دول أو مناطق جغرافية بعينها لخضوعها لأفكار مسبقة الصنع في وعي الجماعة المهيمنة، وذلك لكي لا ينبري لي من سيُثير مسألة الانتماء وضيق رؤيتها إلى المخاضات الكونية. ولن أكتب عن أول بطولةٍ بهذه الأهمية تجري في دولة مسلمة، بعد أن عاندتها الظروف والإرادات طوال العقود الماضية، عسى ألا يتصدّى لي من سيؤنبني على إسقاطي الديني وعزفي على وتر الانتماءات الضيقة التي لطالما سعيت للخروج من حدودها الشائكة، وأنا العلماني المؤكّد.
لن أكتب بالتالي عن التأثير الإيجابي لإقامة مثل هذه البطولة اجتماعياً وثقافياً ورياضياً واقتصادياً على البلد المضيف كما على محيطه الجغرافي القريب والأبعد، وذلك سعياً إلى تحاشي اتهامي بتقمّص شخصية الخبير الاقتصادي والملاحظ الأنثروبولوجي والباحث الاجتماعي والمحلل الرياضي المبجلين، على كثافتهم العددية وملئهم فضائيات القاصي والداني.
ظاهرةٍ مغبطةٍ تتمثل في حمل مجمل مشجّعي الفرق العربية علم فلسطين المحتلة، ومن جاورها إنسانياً، اهتماماً بقضية شعب محتل ومضطهد
إذاً، فأنا لن أكتب عن الفرح والسعادة اللذين أصابا في مبسمٍ مؤقتٍ شعوباً بأكملها تعتقد، عن صواب أو عن خطأ، بأنها تنتمي لأمة تجمعها مشتركاتٌ عدة، وتفصلها سياسات أكثر عتاداً. لن أكتب عن فرحٍ مغربيٍ، عربيٍ أو أمازيغي، لفوز سعودي. ولن أكتب عن ظاهرةٍ مغبطةٍ تتمثل في حمل مجمل مشجّعي الفرق العربية علم فلسطين المحتلة، ومن جاورها إنسانياً، اهتماماً بقضية شعب محتل ومضطهد. وذلك لتحاشي اعتباري أخلط شعبان برمضان.
وبالتالي، لن أكتب عن ذاك الإعلامي الفرنسي الذي أدهشته امتعاضاً كثرة المساجد في العاصمة القطرية، وكأنه قد اكتشف الذرّة، ونقل للمشاهدين الفرنسيين اكتشافاً حريّاً بعالم البحار كوستو. ولن أكتب عن الصحيفة الفرنسية التي عنونت صفحتها الأولى بمانشيت لاذع التعبير بحق بلد بكامله، مُشيحة وجهها عن تأثير هذا الكلام المجحف والشتائمي اليوم وغدا، على شعب البلد المعني، كما الشعوب الشقيقة المعنية أيضاً. ولن أكتب عن المعلّق الرياضي الذي يستبق مداخلاته الرياضية ببثّ مشاعره العنصرية، مُشيراً حيناً إلى كثرة الرمال المحيطة، وكأن أحداً ما قد غشّه قبل أن يستقل الطائرة، وحدّثه عن قطب جليدي انبثق في الخليج العربي. وذاك الفطحل الذي افتتح المباراة بالإشارة إلى أن سكان البلاد كانوا من ساكني الخيم قبل أعوام قليلة لا تتعدّى العقدين. وذاك الألمعي الذي أشار، باغتباط التلميذ الناجح في امتحان الحياة، إلى أنه اكتشف أن تعدد الزوجات مسموح به في البلاد، وكأنه قد أفشى سرّاً نووياً. لأنني إن فعلت، فسيزدحم على انتقادي متنكّرون لانتماءاتهم وكارهو ذواتهم ونسويو الظهور والمبارزة على الأقل.
لن أكتب عن ذاك الصحفي المُتلفز الذي استخدم كاميرا خفيّة ليصور محاولاته المتحذلقة في حجز غرفة فندقية لزوج من المثليين، فحصل على أجوبة إيجابية من مضيفيه، فلم يستسلم، طالباً أن يُسمح له بأن يتبادل القبل واللمسات مع شريكه في المساحات المشتركة من الفندق، وعندما اعتذر مضيفه عن تأكيد الإمكانية من دون نفيٍ قاطع، انتشى الصحفي المتخفّي معلناً لمتابعيه أن المثليين سيُمنعون من المشاركة في تشجيع فرق بلادهم. لأنني إن كتبت فسينبري لي راكبو الموجة لاتهامي بمعاداة حرية اختيار التوجّه الجنسي، وهذا ما يخالف بثبات موقفي.
لن أكتب عن الإعلامي الفرنسي الذي أدهشته امتعاضاً كثرة المساجد في العاصمة القطرية
كما أنني لن أكتب عن ذاك المحلل الرياضي الذي أثاره خروج قطريين من الملعب قبل نهاية مباراة فريقهم الأولى، وكان خاسراً فيها بهدفين نظيفين، بربع ساعة كما ادّعى، وهو نفسه في مقلب آخر سيُعلق على خروج الفريق الفرنسي الأكثر تشجيعاً وجماهيرية من ملعبه قبل نهاية مباراة خاسر بوضوح فيها على أنها تعبير طبيعي عن خيبة الجمهور. مضيفاً بخاتمة تعبّر عن كره دفين أو عن جهل مطبق بأن لا ثقافة كروية للعرب. لأنني إن كتبت فسأكون كمن يتصيّد هِنات إعلامية بسيطة لتأييد كلامي.
لن أكتب عن البيئة وشجونها، مشيراً إلى تدفئة أكثر من أربعة آلاف مسبح بلدي في فرنسا وحدها، كما بعض ملاعبها الكبرى، ولن أُشير إلى كأس العالم المقبل في كندا وأميركا والمكسيك التي سيستقل جمهورها مئات الطائرات لقطع آلاف الأميال بين ملعب وآخر، لأنني أعرف أن هناك من سيقفز كالضفدع لينهرني على الوقوع في فخّ المقارنات المبسطة. ولن أكتب عن موت أكثر من 40 ألف إنسان ساعٍ إلى العمل في القارّة الأوروبية قبل وصوله غرقاً في المتوسط خلال التسع سنوات الماضية، لتبرير رقمٍ غير دقيق يتحدّث عن ضحايا ورشات بناء الملاعب. ولن أتحدث عن آلاف الراغبين في الهجرة وظروف حيواتهم على حدود القارّة العجوز في صقيع الشتاء ولهيب الصيف، حتى لا أعتبر ضالعاً في اختلاق الذرائع.
سأكتفي إذاً، بأن أكتب لإقناع الأصدقاء والصديقات من العرب، ومن في حكمهم، بأنه لا توجد أية نفحة عنصرية أو استعلائية فيما سبق، بل لقد خُيّل لهم.