لماذا ينطفئ وهج الأدب؟

22 اغسطس 2024

(خوان ميرو)

+ الخط -

لا أتكلم عن العالم الكبير، فليس لديّ من الثقة والقراءة باللغات أن أقول ذلك، ولكن أتكلم هنا شخصاً متابعاً سكنَ القاهرة، وعاش في هامش منتجها الأدبي وندواتها ومهرجاناتها الأدبية ومعاركها ثلاثين سنة، وقد كانت في كلّ يوم أو أسبوع معركةٌ، أو ندوةٌ، تنبت هنا أو هناك، أو جائزة... إلخ، فاروق عبد القادر هناك، وهو غير محسوب على شلّةٍ أو نظامٍ أو طائفةٍ أو حزبٍ في "قعدته في باب اللوق"، ينقّب عن الذهب في كتابات الشباب خاصّة، ولا يهمّه منصب المسؤول أو سطوة الكتّاب المُكرَسين. كان رحمه الله سيفاً، حتّى وإن خرج من الدنيا كما دخلها، بلا جاه أو مال أو سطوة أو حتّى جائزة، فأعطوه جائزةً، وكان هو في غيبوبة الموت، كي يغسلوا عن أنفسهم قسوةَ الذنب. ومحمد جبريل في صحيفة المساء يساند كتابات الشباب بعزم وطيبة. ويسري العزب؛ ندوة الفجر، ومجلة العصور تحت إدارة الناشرة راوية عبد العظيم، ومجلة الإنسان والتطور تحت إشراف يحيى الرخاوي.

وهذا كلّه بعضٌ من سيلٍ كان حاضراً في الثمانينيّات والتسعينيّات من القرن الماضي، للأسف، فكيف وصل الأمر إلى هذا الحدّ من الجفاف أو الصمت أو الريبة؟... أدّعي أنّني من المتابعين للكتابات، وأحاول جاهداً أن أقول، بقدر المستطاع، ما يمليه عليّ ضميري الأدبي، فلست ابن "جحر سياسي"، أو حزبي أو قومي أو يساري أو ناشط سياسي، أو حتّى ثورجي يريد أن يقلب الأمور كلّها رأساً على عقب، ولا أنتظر أن تجود عليّ الأمطار والأمصار، أقول ما أحسّه فقط، وأعشق الكتابة بلا تحيّز كان، فكيف وصلت بنا الأمور إلى هذا الحدّ، مجلّات مُعلّبة بلا روح، تخرُج من المطابع من دون رؤية أو متابعة من أحد كما كان يحدُث، كشاكيل أدبية يُلقَى بها أمام باعة الصحف، ولا يُسأل حتّى عن اسمها أو متى صدرت. ... تصوّر، المنيا محافظةً يسكنها زهاء سبعة ملايين نسمة، أسأل بائع الصحف في المحافظة (والله العظيم) عن "أخبار الأدب"، فيردّ البائع: "لم يرسلوا لي منذ سنوات أيَّ عدد"، فأتعجّب على المعارك الأدبية التي كانت تقودها "أخبار الأدب" ضدّ الوزير فاروق حسني، وهيئة الآثار، وباب العزب، وأيّ باب آخر جرى خلعه من وكالة "أبو الدهب"... إلخ، أين المحرّرون الجهابزة الذين كانوا يحقّقون في كلّ شاردة وواردة بالوزارة، وفي مقدّمتهم وزير الثقافة نفسه، بشحمه ولحمه، كانت تجري مساءلته، برلمانياً، وإعلامياً، ومسخرة من "أخبار الأدب" سنوات طويلة، حتّى وإن كان باب أثر قديم لمسجد في زاوية أو تكيّة أو مسجد مغلق منذ سنوات في حارة سدّ، ودعنا من حبس الصحافيين أو الكتّاب أو الناشرين... إلخ، فهذا أمر لا يليق أمامه الآن سوى الخرس أو السفر.

أين أحمد عبد المعطي حجازي، كما حدث في معركة "الصفوة والحرافيش"، وقد ردّ عليه الجيل الأدبي الشاب كلّه في الثمانينيّات والتسعينيّات، آنذاك في مجلة الكتابة الأخرى، التي كانت منبرَ المُهمّشين، وأخرجت جيلَين أدبيَين، أين مؤسّسها وبائعها ورئيس تحريرها هشام قشطة، ككلّ الأشياء التي تختفي، بل تندثر أمام سعار الأسعار والصمت المريب، اختفى هو الآخر مع همومه ومتاعبه الصحيّة، والبعد عن التجمّعات، أيّ تجمعات، والبعد الآن غنيمةٌ، وأيّ غنيمةٍ، تكفي غنيمةٌ السلامة وحدها أو العلاج في نهاية العمر في مستشفيات القوات المسلّحة. وأين الشاعر والمحرّض الأدبي أحمد طه، صاحب تجربة مجلة "الجراد"، انزوى هو الآخر وسكت، بعد أن كان طاقة جبارة في الواقع الأدبي لجيلي السبعينيات والتسعينيات، وصمته هذا يكفي.

على أيامنا، كان الشاعر محمد عفيفي مطر (رحمه الله) يتجوّل على أرصفة المقهى في آخر سنواته فتىً، ويكتب بهمّة "مسامرات للأولاد كي لا يناموا"، رغم أنّه كان ساعتها على أبواب السبعين ويترجم ويفنّد، مُكرّرا بركة "الفسيلة"، وثواب من يغرسها. وبهاء طاهر يخرج بشموعه في بركات الثورة، قبل 30 يونيو/ حزيران 2013 بالطبع، ويكتب "واحة الغروب"، والراحل عبد الحكيم قاسم بعدما أصابه الشلل، يأتي باسماً كطفل، مستنداً إلى كتف، وفي يده قصّة أو كتاب جديد، وأصدر في سنتين ثلاثة كتب، وفاروق عبد القادر في باب اللوق في كامل كرامته يناقش ويحاور ويتابع ويحنو كملك بلا جيوش.

كانت الحياة كريمة، وبلا ثمن، فيا حسرةً على من أصابته حِرفةُ الكتابة الآن.