لماذا فازت رواية باسم خندقجي؟
لا حاجة للسؤال أعلاه. لأن الإجابة عليه حسمَها ناسٌ من أهل "حكي المصاطب"، عندما أخطرونا بأن دولة الإمارات (هكذا!)، احتاجت لتبييضٍ ثقافيٍّ لسمعتها، وهي المتطرّفة في التطبيع الذي تقيمه مع إسرائيل، فأوعزت إلى القائمين على الجائزة العالمية للرواية العربية (أو "بوكر العربية" في اسمِها الذائع) بأن يُعطوها لرواية الأسير الفلسطيني، باسم خندقجي، "قناع بلوْن السماء" (دار الآداب، بيروت، 2023)، فامتثلوا. قال صنفٌ آخر من أولئك إن أعضاء لجنة التحكيم، ومعهم أعضاءُ مجلس أمناء الجائزة، استشعَروا، من تلقائهم، رغبة دولة الإمارات بأن تُحرِز هذه الرواية الجائزة العتيدة، لما في هذا من ذلك التبييض، فكان فوزُها المُعلن في الحفل المُشهَر في أبوظبي الأحد الماضي. والمُدهش أن لدى الذين أفضوا بهذا الكلام فائضاً من الثقة بأنهم يعرفون ما في كل سريرةٍ، وما وراء كل أكَمَة، فقد دوّنوا وأشهروا درايَتهم بالذي خاضَ فيه أهل الجائزة العتيدة، وكأنهم شاركوا في مداولات المحكّمين. وقولان عندي في شأنهم: إن لهم أن يغتبطوا بتفردّهم هذا، فمن حقوق الإنسان أن يتوهّم واحدُنا ما يشاءُ عن نفسه. وإنها كلامٌ فارغٌ "خُرّافيّتهم" عن الإمارات التي أرادت أن "تتبيّض" بتكريم القناع الذي بلوْن السماء بجائزة.
أمّا لماذا أحرزَت رواية باسم خندقجي "بوكر"، فالجواب، ببساطةٍ، لأن لجنة التحكيم اختارتْها، بكل استقلاليةٍ ومن دون أيّ تأثيرٍ من أي نوع، من بين ستِّ رواياتٍ كانت قد صعّدتْها إلى قائمةٍ قصيرة. وأحدسُ أن كثيرين من المتحدّث عنهم أعلاه (وسواهم؟) سيُقابِلون هذا الكلام بقهقهةٍ تجعلهم ينطرحون على أقفيتِهم، من فرط ما يروْنها سذاجةً أقيمُ عليها، وتجعلني ممن تأكُل القطط عشاءاتهم، فالحالُ الثقافيُّ العربيُّ فاسدٌ، وصنّاعُه وأسماؤه فاسدون، والجوائز فيه فاسدة. وهذا من البديهيّ الذي لا يحتاجُ، في أعراف هؤلاء، إلى جدلٍ وجدال. والردّ لديّ على من يعتنقون هذا المنظور إن ثمّة، بالطبع والبداهة، فساداً وفاسدين في المشهد الثقافي العربي، وإنّ بعض من اختيروا للتحكيم في "بوكر" لم يكونوا على قدّ ما هم مؤتمَنون عليه، فلم يُزاولوا عملَهم (بأجرٍ) بنزاهة، فغلّبوا صداقاتِهم على غيرها، لكن هذا لا يعني التسليم بالتعميم المسترسِل عن فسادٍ بالمطلق، وبأن لا شيءَ في هذا المشهد سوى الفساد. ولا يعني أنّنا إذا أردنا أن نعرف ماذا في إيطاليا علينا أن نعرف ماذا في البرازيل، على ما كان حسني البورزان (أو البورظان) يقول، فقلّة النزاهة والكفاءة والمهنيّة في فلانٍ في اللجنة الفلانية في ذلك العام لا تسوقُ إلى أن الجميع على هذا الحال. والمُختَتم هنا في هذا التفصيل إن لجنة تحكيمٍ يرأسُها ناقدٌ ذوّاقة، نظيفٌ وشُجاع، اسمُه نبيل سليمان، لا تُرمى بالذي يستطيبُ إشاعتَه أهلُ النمائم إياها، ممن تتوطّن فيهم ثقافة الريبة والشّبهة، فينقالُ عنها إنها أرادت فوز رواية باسم قندقجي لتبييض الإمارات، الدولة التي تموّل واحدةٌ من مؤسّساتها جائزة "بوكر العربية". وزيادة لمستزيد، أعرفُ (ويعرف غيري) أنه لم يحدُث أن أيّاً من لجان التحكيم منذ 17 عاماً أخذت بغير ما أرادت. وتالياً، لنا، نحن القرّاء، أحكامُنا في الأعمال التي كسبت الجائزة الأولى أو وصلت إلى القائمتيْن، ويعتقد صاحبُ هذه السطور أن منها ما لا يستحقّ النشر ولا القراءة، ناهيك عن تكريمها.
هل أراد المحكّمون تكريم كاتب "قناع بلوْن السماء" لأنه أسيرٌ في سجون الاحتلال، فغلّبوا هذا البعد على اعتباراتٍ إبداعيةٍ وفنّيةٍ يلزم أن تتوّفر عليها روايةٌ تُحرزُ جائزةً رفيعةً يشتدّ التنافس عليها؟. لا أعرف. ... غير أني أستعجلُ استدراكاً مُلحّاً، فأقول إنها روايةٌ حسنةٌ، وتستحقُّ أن تتبارى على المنزلة الأولى في غير جائزةٍ للرواية العربية. ولمّا عُلِم أن اللجنة تداولت في تصفيات تصفياتِها أن تختار العمل الفائز بين ثلاثةٍ من الستّة، يصير مرجّحاً أنه صحيحٌ ما "تسرّب" إن قناع باسم خندقجي أحرز الفوز بإجماع اللجنة التي تضمّ إلى رئيسها الزميليْن محمد شعير وحمّور زيادة والأكاديمية سونيا نمر ومستشرقاً تشيكياً. وثمّة خبرةٌ باديةٌ لدى خندقجي بتجريبٍ ظاهرٍ في الحكي، فقد أنجز روايةً فيهاً تكنيكٌ على شيءٍ من الابتكار والجدّة في كتابةٍ شائقة. وفي ذهابها إلى لعبةٍ سرديةٍ نابهةٍ، وليس في غيره، تفوّقت على روايةٍ أخرى نافست على الجائزة، بديعةٍ عن حقّ، في كلاسيكيّة مجراها السردي، وفي صناعة فضاءاتها، وفي بناء شخصيّاتها. وأيا كان الحال، في الوُسع أن نتناقش في هذا المطرح، ونتفّق ونختلف، لا في المطرح الذي يريدُنا فيه أهل "حكي المصاطب".