لماذا طارق البيطار؟
قبل الانفجار الضخم الذي دمّر مرفأ بيروت وقسما كبيرا منها، وبعده، ارتُكبت جرائم واغتيالات عديدة بحقّ اللبنانيين، بقيت ملفاتها فارغة مطويّة. وتمرّ في هذه الأيام سنتان على اغتيال الإعلامي لقمان سليم، وما من موقوف في الجريمة. وما يزيد الاعتقاد أن هذه المنظومة وما لديها من سطوة على الأجهزة الأمنية والقضائية تقف موقف العداء المطلق للعدالة، وتؤكّد تمسّكها بمبدأ الإفلات من العقاب والمحاسبة، أنّ جميع الموقوفين في قضية تفجير مرفأ بيروت الكبرى قد أخلي سبيلهم!
المحقق طارق البيطار ابن قرية عيدمون في عكار في شمال لبنان، من أسرة متواضعة، تلقى تعليمه في الجامعة اللبنانية، حيث حصل على إجازة في الحقوق. تدرّج في المحاماة ثمّ عُيّن قاضيا منفردا في الشمال، ثمّ مُدّعيا عامّا في الشمال. وفي 2017، عُيّن رئيسا لمحكمة جنايات بيروت، حيث أُحيلت إليه قضايا جنائية كبيرة وخطرة، وقد تميّز بسرعة البتِّ بها، وصدرت عن محكمته قرارات وُصفت بالمُتشدّدة بحق مُتهمين بجرائم قتل واتّجار بالمخدرات واغتصاب واتجار بالبشر، منها قضية مقتل جورج الريف على يد طارق يتيم في محلة الأشرفية، وقضية مقتل الشاب روي حموش في محلة الكرنتينا. إضافة إلى الحكم الذي أصدره في قضية الطفلة إيلا طنوس التي بُترت أطرافها الأربعة نتيجة خطأ طبّي، والذي وُصف كمنعطف بارز وسابقة قضائية في قضايا الخطأ الطبي.
تولّى مهامه محقّقا عدليّا في قضية تفجير مرفأ بيروت في فبراير/ شباط 2021 بعد تنحّي القاضي فادي صوان، في أولى محاولات القوى المهيمنة والمشتبه بعدد من قادتها، عرقلة التحقيق. وفي يناير/ كانون الثاني 2021 كُفّت يدُ البيطار عن ملف التحقيق، وبلغت دعاوى الردّ ومُخاصمة الدولة بحقّه على أيدي المطلوبين للتحقيق قرابة الأربعين، في سابقة قضائية وُصفت بالتعسّف في استغلال القوانين. وفي 25 يناير/ كانون الثاني 2023، وبعد اجتهاد قانوني عمل عليه لأشهر، توصل القاضي البيطار إلى أنّ المُحقّق العدليّ لا يُردّ ولا تُكفّ له يدٌ عن ملفه، وأنّه غير مُلزم بأذونات في استدعاء من يشاء من المشتبه بهم. فعاد إلى ملفّه، بعدما لمس من قوى السلطة إصرارا على تنحيته واستبداله بقاضٍ موالٍ ينسف التحقيقات التي أُجريت، ويحقق بحسب ما تمليه عليه مصالح تلك القوى. ثمّ بادر إلى الادّعاء على قيادات أمنية وسياسية وقضائية، بمن فيهم مُدّعي عام التمييز القاضي غسان عويدات، الذي كان رده، وهو المُتنحي عن ملف تفجير المرفأ قانونا لعلّةِ صِلةِ القرابة بأحد المُدّعى عليهم في القضيّة (غازي زعيتر)، أنْ عاد عن تنحّيه بدون أيّ سندٍ قانوني، وادّعى بدوره على البيطار بجرم اغتصاب السلطة! ثمّ أطلق سراح جميع الموقوفين في تلك الجريمة!. .. وعلق البيطار على إجراءات عويدات قائلا: سأتابع ملفّ التحقيق في جريمة تفجير المرفأ، سواء في مكتبي أو في بيتي أو في السجن!
علق البيطار على إجراءات عويدات قائلا: سأتابع ملفّ التحقيق في جريمة تفجير المرفأ، سواء في مكتبي أو في بيتي أو في السجن!
عصف تفجير المرفأ باللبنانيين مساء الرابع من أغسطس/ آب 2020، وهم في حال من الإحباط والتردّي أمام واقع الانهيار المتسارع لأوضاعهم المعيشية والاقتصادية والمالية والنقدية، انهيار يدرك اللبنانيون مسؤولية قوى السلطة جميعها فيه، والذي فجّر انتفاضتهم الكبرى غير المسبوقة قبل أشهر في 17 أكتوبر/ تشرين الأول 2019، الانتفاضة التي بدأت تتراجع تحت وطأة القمع المُمنهج على أيدي الأجهزة الأمنية الرسمية من جهة وشبّيحة القوى المسيطرة، وفي مقدمتها بلطجية حزب الله وحركة أمل من جهة أخرى، ما دفع عشرات آلاف الشباب إلى الهجرة، ومنهم آلاف من ناشطي وثوار 17 تشرين.
نتذكّر أنه قبل حدوث الانفجار بحوالي 45 دقيقة، شبّ حريق كبير في العنبر رقم 12، ما استدعى تدخّل فوج إطفاء بيروت العاجل، وبدل أن يُبادر من "كان يعلم" بوجود هذا الكم الخطير من المتفجّرات داخل العنبر إلى طلب إخلاء المنطقة بشكل فوري من المواطنين، تجاهل الأمر وترك فوج الإطفاء يذهب إلى حتفه من دون أن يرفّ له جفن. ونتذكر أيضا أنه ما من مسؤول في السلطات كافة تجرّأ وبادر إلى مواساة المفجوعين والمصابين والمصدومين من مواطنيه بعبارة أو بكلمة أو بالتوجّه إلى موقع الجريمة، فكان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أول من زار المنطقة بعد يومين متفقدا.
من هنا، لا غرابة أن يربط اللبنانيون بين تفجير المرفأ والقوى المسيطرة على البلاد ومؤسساتِها والتي تتحمّل كامل المسؤولية عن انهيار أحوالهم ومؤسساتهم كافة (وعن قصد بحسب تقرير البنك الدولي)، وبالأخص حين تبادر هذه القوى، كلٌّ من جهتها، إلى استخدام كل الوسائل من أجل ليس فقط عرقلة التحقيقات العدلية، بل تذهب إلى أبعد من ذلك إلى تهديد المُحقّق العدلي بـ"قبعه" و"افهموها كيف ما بدكن"! ثم الالتفات إلى شقّ صفوف ذوي الضحايا المطالبين بالعدالة واختراق الجسم القضائي، واستخدام بعض القضاة لترهيب الناشطين من ذوي الضحايا في عمليات استدعاء وتوقيف تعسفية.
كل اللبنانيين المتضرّرين من هذا النظام، وليس المتضرّرون من تفجير المرفأ فحسب، يشعرون بأنهم معنيون باستمرار طارق البيطار في تحقيقاته
باعتباره صاحب الملف الحريص تمام الحرص على سريّة التحقيقات في جريمة بحجم جريمة تفجير مرفأ بيروت التي راح ضحيتها أكثر من 230 شخصا بريئا، وأصيب فيها حوالي 6500 شخص، ودُمر كليا أو جزئيا ثلث العاصمة بيروت، وشُرد بنتيجتها حوالي ثلاثمائة ألف إنسان، يمتنع المحقق العدلي عن إصدار أيّ تصريحات، أو يُساهم بأيّ تسريبات تتعلق بالتحقيق. الملف بيده لا يطّلع عليه أحد. وكل ما يتداوله الإعلام هو ما يتردّد من ردود فعل على مواصلته التحقيق واستدعاء أو الادّعاء على مشتبه بهم. وباعتبار أن غالبية المشتبه بهم هم من كبار القوم المسؤولين في نظام ائتلاف المافيا/ المليشيا المُسيطر، تعطى هذه الاستدعاءات طابعا سياسيا حينا وطائفيا ومذهبيا ومناطقيا أحيانا أخرى.
ونظرا إلى ما يُعانيه اللبنانيون نتيجة السلوك المُمنهج لقوى الفساد والنهب والتنفّذ والإفلات من المحاسبة والتحصّن طائفيا ومذهبيا .. السلوك الذي أوقعهم في طاحونةٍ من الأزمات والانهيارات في كل شؤونهم، وبعدما أفلتت منهم القدرة على المواجهة، إذ انكفأت انتفاضتهم الأكبر، فإنّ محاسبةً تطاول رؤوس الفساد والنهب وأزلامهم في أيّ قضيّة، تفتح لهم نوافذ الأمل، فكيف إذا كان هؤلاء مشتبه بهم في قضية بحجم تفجير العاصمة؟!
اليوم، كل اللبنانيين المتضرّرين من هذا النظام، وليس المتضرّرون من تفجير المرفأ فحسب، يشعرون بأنهم معنيون باستمرار طارق البيطار في تحقيقاته. همّهم أبعد من جريمة تفجير المرفأ، همهم تداعي منظومة تحاول اليوم إعادة إنتاج نظام سيطرتها مجدّدا بالرغم من كل الجرائم التي ارتكبتها على مدى ثلاثة عقود، وأوصلت البلاد إلى ما هي فيه اليوم. وفيما ترى القوى المسيطرة في تحقيقات طارق البيطار مسّا أكيدا في مصالحها وصورتها في نظر اللبنانيين وسواهم، وهي محقّة في ذلك، فإن اللبنانيين اليوم يرون في طارق البيطار وفي استكماله التحقيقات في جريمة تفجير مرفأ بيروت أملا مرجوّا لإنهاء زمن الإفلات من العقاب، وربما تعويضا ما عن فشل انتفاضة 17 تشرين.