لبنان من واحة الحرّية إلى مستنقع الطغيان
بديهي أن تتمسّك القوى المسيطرة في بلد ما بنظام سيطرتها، وأن تعزّز هذه السيطرة بكل الأدوات المادية والمعنوية المتاحة أمامها. ويُصبح هذا أكثر بداهةً، وتصبح هذه القوى أشدّ استمساكاً بمواقعها السلطوية، وأشدّ حاجة لابتكار أدواتٍ إضافيةٍ ماديةٍ ومعنوية، للحفاظ على هذه السيطرة وتعزيزها، وربما تأبيدها كلما كبُرت ارتكاباتها وتعاظم فسادها، وبالتالي تمادت في انفصامها عن المجتمع الذي تحكُمه، وبان عداؤها له، فباتت حاجتها أشدّ للحصانات التي يؤمنها لها وجودها في السلطة، بما يبعد عنها صروف المساءلة والمحاسبة وشبح المحاكمة. ويصبح هذا أكثر إلحاحاً حين يبدي المجتمع أياً من أشكال الاعتراض، أو يلجأ إلى الانتفاض.
سورية نموذج صارخ لما سبق، فطوال السنوات التي تلت انتفاضة درعا، ومن ثم كل سورية (2011)، كان تشبث نظام بشّار الأسد بالسلطة يزيد ويتضاعف كلما تضاعفت جرائمه بحق الشعب السوري، وصولاً إلى أن استدعى كل أعداء الشعوب وشذّاذ الآفاق لنسف الثورة السورية من أساسها، ولو احتاج ذلك إلى تدمير البلاد وتشريد أهلها في أربع جهات الأرض.
أما لبنان، الذي اعتبر في ما مضى بالنسبة إلى اللبنانيين والعرب، واحة للحرية في شرق مستبد، حرية الرأي والتعبير والصحافة (على الرغم من دلائل كثيرة تؤكّد خلاف ذلك: اختطاف سليم اللوزي والتنكيل به وقتله 1980، اغتيال سهيل طويلة 1986، ومهدي عامل 1987، وسواهم)، وحرية التجارة وحركة الأموال، المصونة بالدستور اللبناني الذي يشتمل في مقدّمته على التزام الشرعة الدولية لحقوق الإنسان والمواثيق الأممية للحقوق الاجتماعية والاقتصادية، فقد بات اليوم في ظل استعادة قوى السلطة إياها سيطرتها، بعد أن نالها ما نالها من تجريح ومهانة وتهزيء خلال انتفاضة 17 تشرين (2019)، بات اليوم مستنقعاً آسناً لاستبدادٍ مُضاعَف، يمارس على الناشطين في كل المجالات، ليس في السياسة فحسب، بل أيضاً في الفنون والمسرح والغناء وسواها، وليس على يد مؤسّسات السلطة، كالقضاء وأجهزة الأمن المختلفة فقط، بل على أيدي بلطجية قوى السلطة والتابعين وتابعي التابعين وكل من أزعجه فلان أو أزعجته فلانة بمنشورٍ من هنا أو بتعبير من هناك، ولو بمفعول رجعي يطاول سنواتٍ خلت، استبداد يُمارس من فوق ومن تحت، كحجري رحى يراد منها ليس فقط الثأر من "17 تشرين"، بل أيضاً تأديب المواطنين كافة وإرجاعهم الى بيت الطاعة الطائفي والمذهبي، بيت طاعة الزعيم الذي كان قد ناله ما ناله خلال أشهر الانتفاضة من "هيلا هو" و"كلّن يعني كلّن"... وسوى ذلك من ملاحقة لهذا المسؤول وذاك الزعيم في الشوارع والمقاهي والمطاعم.. ما فرض عليهم الانزواء داخل الجدران، من دون أي كلام، إلى أن تمكّنت جحافل حزب الله وشبّيحة حركة أمل من إطفاء جذوة الانتفاضة وهزيمتها، ما جعل متاحاً لباقي أطراف السلطة، وباستخدام شبّيحتها، إضافة إلى أجهزة الدولة، الانتقام قدر الممكن من ناشطي 17 تشرين، سواء برفع الدعاوى القضائية ضدهم، أو بالتعدّي المباشر عليهم، وليستعيدوا شيئاً من الحضور السياسي والاجتماعي. ولم يكن ما جرى مع الكوميدي المسرحي نور حجّار سوى "بروفة" لكيفية الادّعاء على الناشطين واستدعائهم للتحقيق، على خلفية خطاب من هنا أو مقال من هناك أو منشور أو فيديو على مواقع التواصل الاجتماعي أو تحرّكاتٍ قاموا بها خلال أشهر الانتفاضة. فكما نَبش واجتزأ مشبوهون شريطَ فيديو لنور حجّار مضى على نشره أكثر من خمس سنوات، يمكن نبش أي مستندٍ لأي ناشط لاستدعائه والادّعاء عليه وربما سجنه.
كما نَبش واجتزأ مشبوهون شريطَ فيديو لنور حجّار مضى على نشره أكثر من خمس سنوات، يمكن نبش أي مستندٍ لأي ناشط لاستدعائه والادّعاء عليه
حتى التحرّكات المطلبية البحتة باتت من الممنوعات! فمن قرار وزير التربية، عباس الحلبي، القاضي تعسّفاً بفصل المعلمة المتعاقدة نسرين شاهين، إلى سلسلة الاعتذارات التي يعلنها متظاهرون طالبوا بالتيار الكهربائي في الجنوب، منتقدين أداء نواب الثنائي الشيعي، إلى غير ذلك من مظاهر الإذلال التي تفرض على كل من يحاول تحصيل شيءٍ، ولو ضئيلاً، من حقوقه.
غير أن السوريالي في المشهد اللبناني يتجلى؛ من جهةٍ في "حرص" السلطة المزعوم، واتحاد قواها المدنية والدينية حول "التشبث بالهوية الوطنية وآدابها العامّة وأخلاقياتها المتوارثة جيلاً بعد جيل، وقيمها الإيمانية، ولا سيما قيمة الأسرة وحمايتها ومواجهة الأفكار التي تخالف نظام الخالق والمبادئ التي يجمع عليها اللبنانيون"، في اجتماع وزاري عقده رئيس حكومة تصريف الأعمال، نجيب ميقاتي، وعدة وزراء لدى البطريرك بشارة الراعي وبحضوره في مقر البطريركية في بكركي، بشكل مخالفٍ لأبسط القواعد الدستورية، فكانت هذه خلاصة البيان الذي صدر عنه، في تجاوز للدستور والقوانين والأنظمة المعمول بها في لبنان، وفي تجاهلٍ تام لكل الويلات التي لحقت بغالبية ساحقة من الأسر اللبنانية التي طحنتها الأزمة المعيشية التي سبّبها هؤلاء، فعانت الفقر والتهميش، ما زاد من حالات العنف الأسري المفرط، وضاعف من حالات الانتحار بشكل غير مسبوق، إضافة إلى هجرة، بل تهجير مئات آلاف الشابات والشبّان من ذوي الاختصاصات الضرورية لإعادة الحياة الطبيعية للبنانيين.
لا بد لمن بقي من ناشطين في البلاد التنبّه وأخذ الحيطة والتكاتف وتنظيم أنفسهم بالشكل الذي يحميهم من التغوّل البوليسي للسلطة
ومن جهة ثانية، في توقف التحقيقات في تفجير مرفأ بيروت سنة ونصف سنة، التفجير الذي أودى بحياة مئات وشرّد عشرات الآلاف، كما في توقّف التحقيقات في الجرائم المالية المسندة إلى حاكم مصرف لبنان السابق، رياض سلامة، التي كانت من أبرز أسباب الأزمة المالية والنقدية غير المسبوقة، والتي دفعت 80% من اللبنانيين إلى تحت خط الفقر، فيما يُلقى القبض على ممثّل مسرحي ويُحاكَم ويُعتقل على خلفية نكتة مجتزأة في شريط فيديو نشر قبل خمس سنوات!
هذه المشهدية التي يتوقّع لها أن تتكرّر في ظل نظام سيطرة القوى نفسها التي يرعاها ويحميها حزبٌ مسلحٌ متحرّر من كل القوانين النافذة محلياً، تؤكّد استخدام السلطة وقواها القوانين والأجهزة القضائية والأمنية بشكل تعسّفي واستنسابي، يتوافق مع مصلحتها في تأبيد سيطرتها وتدعيم حصانة أفرادها وقواها بوجه المحاسبة بشكلٍ يتناسب طردياً مع حجم جرائمها وتماديها بحق المواطن والمجتمع والوطن.
من هنا، كان لا بد لمن بقي من ناشطين في البلاد التنبّه وأخذ الحيطة والتكاتف وتنظيم أنفسهم بالشكل الذي يحميهم من التغوّل البوليسي للسلطة، ومن كلّ أشكال التعدّيات والتهديدات المتوقّعة.