لماذا شوهِدَ "ابتسم أيها الجنرال"؟
قدّمت الدراما السورية (التلفزيونية وليست الواقعية المعايَنة) مسلسلاتٍ عن أزمنةٍ من التاريخ البعيد، راقيةٍ وبديعةٍ، تضمّن قليلٌ منها إسقاطاتٍ على شيءٍ من راهن السلطة وتجبّرها واستخدامها الناس وقودا في حروبها. واقتربت أعمالٌ أخرى من بعض مظاهر الفساد وتسلّط المخابرات، بجرأةٍ طفيفةٍ أحيانا، وبحذرٍ أكثر أحيانا أكثر. ولكن الجمهور السوري، والعربي عموما وحُكما، احتاج أن تتعرّى، تماما، السلطة الماثلة، دواليبُها الأعلى تخصيصا، أن تنفضح قدّامَه وقدّام نفسها. احتاج أن يرى الرئيس خائنا، لا يستر شيءٌ عُريَه فاسدا قاتلا دجّالا، وخائفا ومرتعشا. شَبِعنا من دخول قصور أبي جعفر المنصور وعبد الرحمن الداخل والسلطان عبد الحميد والظاهر بيبرس، وغيرهم ممن يقيمون في بطون التاريخ، نحتاج أن ندخل قصور بشّار الأسد وأبيه وعمّه وأمّه وأخيه، ممن أجهزوا على سورية، وأخذوا شعبَها إلى دراما المقتلة والتغريبة المشهودتيْن منذ عقود. حاجتُنا، نحن العرب، وفي مقدّمتنا السوريون، هذه، سببٌ أوّل للنجاح فوق الاستثنائي لمسلسل "ابتسم أيها الجنرال" في متابعة الملايين حلقاتِه على شاشتي تلفزيوني العربي 2 وسوريا، وعلى "يوتيوب" ووسائل التواصل الاجتماعي. لبّى هذا العمل عَطشا مديدا إلى أن يُرى الحاكم العربي الراهن، الفاسدُ المستبدُّ القاتل، وبطانتُه وأسرتُه، على الشاشة، يشخّصهم ممثلون قديرون، ليكون هذا واحدةً من أدوات الحطّ من هذا الحاكم وممن حواليه، وواحدةً من وسائل هزيمته والضحك عليه ومنه.
أول النجاح لأيِّ مسلسلٍ تلفزيوني أن ينشدّ إليه جمهورٌ متنوّع، واسعٌ، ثم أن يتوفّر على تماسك مبناه الدرامي، ويكون شائقا في حكايته وتتابعها، وأن يكون طاقمُه من الممثّلين على كفاءةٍ عاليةٍ من الإقناع وتمثّل الشخصيات التي يؤدّونها، وذلك كلّه مع مؤثراتٍ بصريةٍ وصوتيةٍ تساعد في خدمة إيقاعه العام، وتوالي مَشاهده. وأيا تكن هناك من مؤاخذاتٍ، في محلها ومحقّة، فنيةٍ إخراجيةٍ وغيرها، على مشهدٍ هنا أو أداءٍ هناك، في "ابتسم أيها الجنرال"، فإنها لا تخدِش حقيقة أن هذا العمل أحرز توفيقا عاليا في مستواه الفني وتماسكه الدرامي، بشكلٍ عام وبعيدا عن تفصيلٍ هنا وهناك. ولا يعود هذا فقط إلى موضوعة المسلسل، وهي فساد العائلة الحاكمة منذ خمسة عقود في سورية واستبدادِها وخيانتها ودجلِها وصراعاتها الداخلية وانعدام أي حساسيةٍ فيها بشأن الإجرام والنهب والقتل. وفي الوُسع أن يُقال هنا إن تقديم هذا الموضوع، بالمباشر الواضح وبالترميز المُراوغ، وبالحقيقيّ المعلوم والمتخيّل المبتكَر، وبالكيفية التي انبنى فيها المسلسل، جاءَ على قدر كبير من الإمتاع والجاذبية، وإن صحّ أن شيئا من النمطية في بعض الأداء كان ظاهرا، وخصَم من جودةٍ مؤكّدةٍ في العمل، ضاعفت من حضورِها الخبرة الظاهرة في تمثيل مكسيم خليل وعبد الحكيم قطيفان وريم علي وغطفان غنّوم وسوسن ارشيد ومازن الناطور ومحمد الأحمد وبسام قطيفان ومرح جبر، وزملاء لهم كثيرين.
لمّا كان المسلسل أول أعمال المخرج عُروة محمّد، فهذا مبعثُ إعجابٍ به وتقديرٍ له، إذ تصدّى لمغامرةٍ ليست هيّنة، واستطاع إدارة فريقٍ من النجوم والموهوبين، وفي ظروفٍ إنتاجيةٍ صعبةٍ بعض الشيء، بل وفي أجواء ليست مواتيةً تماما. وإذ، بداهةً، يعود النجاح الجماهيري، فوق الاستثنائي كما سبقت الإشارة، لهذا المسلسل الذي ينعطف بالدراما السورية إلى منطقةٍ أخرى، جديدة، برهاناتٍ مختلفة، إلى هذه النخبة الطيّبة من الفنانين السوريين، الفدائيين بحسب وصفٍ يستحقّونه خُلع عليهم، فإن صاحب النص والسيناريو، سامر رضوان، يبقى صانعا أول لهذا النجاح، في ذهابه إلى تجربةٍ كهذه، تخرُج عن تقاليد مستقرّة ومديدة في الدراما العربية، تُحاول أن تختبر اشتباكا مع سلطة القهر الحاكمة في دمشق، وتجترح مبادرةً من المأمول أن تتبعها مبادراتٌ أخرى، تواصل هذا اللعب مع السلطة الغاشمة بعد ضربة البداية القوية التي ركَلها سامر رضوان، الشاعر الذي دلّت أعماله السابقة على موهبةٍ وشجاعةٍ ثقيلتيْن فيه.
أظنّه صحيحا ما نشر أن منتسبي أجهزة النظام في دمشق الأمنية والمخابراتية تابعوا حلقات "هذاك المسلسل"، كما هو اسمُه في الداخل السوري. والغضب الذي أبداه أقارب للأسد ومن بطانته وشبّيحته وفنّانيه شاهدٌ مضافٌ على نجاح واسع لهذا العمل الدرامي الذي لم يكتف بأنه سدّد في مرمى النظام هناك أهدافا بلا عدد، وإنما استجاب لأشواقٍ ثاويةٍ في حشايانا، نحن النظّارة العرب، أن نرى حاكما عربيا راهنا كما يلزم أن يُرى، لا كما أُريدَ أن يُرى، في "الاختيار" مثلا.