لديّ أقوال أخرى عن أهل غزّة
مصادفةً؛ ولأنّ متابعة أي عمل درامي باتت من الأحلام والأمنيات، في ظل انقطاع الكهرباء في غزّة وأجواء الحرب التي نعيشها. وحتى لو كنتَ خارج غزّة، فأنت تعيش أحداثها لحظةً بلحظة، ويمتلئ يومُك بمتابعة الأخبار وعدم القدرة على الخروج من أجواء شدّ الأعصاب والقلق والتوتر التي بات كثيرون يشتكون منها، وتسبّب لهم عوارض صحية مفاجئة بالمناسبة. ولذلك، لعبت المصادفة دوراً صغيراً حين وضعت أمامي لقطات من الحلقة الأولى من مسلسل عرض خلال شهر رمضان، حيث ظهرت الممثلة يسرا بثوب أحمر أنيق في حفل زفاف ابنتها، وكانت قد فقدت ابنها أخيراً، فما كان من أمّ الزوج المستقبلي إلا أن علّقت "شوفي لابسة أحمر وابنها لسّه ميّت"، وقد علقت تلك الملاحظة في ذهني وتذكّرتها بما أفعله كلّما مرّ بي موقفٌ أحاول فيه التجاوز، لكي أستمرّ حتى لو على حساب ضغط عصبي ونفسي لا يوصف، كما حدث مع الأم الثاكلة في المسلسل، وقد تذكّرت ذلك المشهد حين تعالت التعليقات والتحليلات لمشاهد أهل غزّة وهم يستحمّون في البحر، بل إن صحفاً عبرية تساءلت عن النصر الذي يتحدّث عنه نتنياهو وادّعائه إحكامه السيطرة على القطاع، فيما يستجمّ أهله بلا مبالاة وباستمتاع كما تخيّلوا في مياه البحر. وفيما قارنت مواقع عبرية بين استمتاع الغزّيين بشاطئ البحر بكل حرية وما يحدُث من تقييد لحركة الإسرائيليين على شاطئ زيكيم وإعلانه منطقة عسكرية مغلقة، ولا يمكن للمغتصبين الاقتراب منه من دون إذن مسبق، وذلك حسبما أعرب عنه الصحافي الإسرائيلي، ألموغ يوكير، خلال سخريته مما يسمّى النصر المطلق.
والحقيقة أن الصور التي جرى تداولها وترافقت مع موجة حارّة غير معتادة اجتاحت المنطقة هي لنازحي مخيّم أرض المصدر في وسط القطاع، وقد كان هؤلاء يستحمّون بمياه البحر في فصل الشتاء أيضاً، والسبب أن المياه العذبة المخصّصة للاستحمام غير متوافرة، ولذلك البحر هو ملاذهم الأول والأخير. ومنذ بداية الحرب، يستحمّون فيه ويغسلون ملابسهم وأوانيهم باستخدام مياهه التي ينقلونها إلى خيامهم المقامة بالقرب من الشاطئ، وضمن واحد من أكثر مخيّمات النزوح بؤساً على امتداد الشريط الساحلي الغربي لقطاع غزّة، والذي يواجه أعتى الحروب المدمّرة منذ ما يقارب سبعة أشهر، ووسط صمت عالمي مستفزّ لم تكسره إلا تلك الصور المتداولة، والتي انتشرت بشكل سريع، على الرغم من صور الإبادة الجماعية التي يتعرّض لها الغزّيون كل يوم وصور معاناتهم في تدبير حياتهم، وإنْ كانت تلك الصور قد كسرت ذلك الصمت العالمي قليلاً بأن أراحت ضميره بأن الشعب الغزّي ما زال قوياً وصامداً، ويمارس حياته بسهولة وراحة، ولا يعبأ بكل هذا الموت المحيط به، بدليل هذه الصور التي توحي باستمتاع الغزّيين بالبحر. وعلى الرغم من أن هذا البحر ذاته قد ابتلع وتسبّب في موت عشرات منهم سابقاً، وخلال حملات إلقاء المساعدات الجوية، والتي سقط بعضها في البحر، وتوجّه نحوها هؤلاء البائسون لانتشالها، ما تسبب بموتهم وإضافة طريقة جديدة للموت في غزّة.
يمكن أن تضاف هذه الصور المتداولة لحماقات إعلامية غير متعمّدة جرى ارتكابها خلال الحرب على غزّة، أدّت إلى نقل صور غير حقيقية، بل مشوّهة، عن واقع الحياة القاسية الذي آل إليه حال ما يقارب المليوني إنسان في أكثر بقاع الأرض اكتظاظاً بالسكّان، وأدّت تلك الصور التي تُشاهد عن بعد إلى التغطية على حجم الكارثة الحقيقية في القطاع، الذي أصبح أكثر من 75% من مساحته غير صالح للعيش الآدمي، في إحصائية قابلة للزيادة مع التهديد باجتياح رفح آخر ملاذ للنازحين، وتحويلها إلى صورة مكرّرة عما حدث في شمال القطاع وخانيونس مثلاً.
الصورة الحقيقية مؤلمة لا يمكن أن يشعر بها إلا من عاشها عن قرب، ولا يمكن أن نقول إن الشعب في غزّة ما زال صامداً في خيام تفتقر إلى أدنى مقوّمات الحياة وتنتهك كل مسمّيات الآدمية، ما لم نكن كلنا على غرار أمّ الزوج المستقبلية التي تنصر ابنها المدلّل دائماً ظالماً أو مظلوماً، متّبعة المواريث الذكورية التي تجعل من أم الزوجة أحد مسبّبات منغّصات الحياة الزوجية في المجتمعات العربية خصوصاً.