لبنان ونُذُر الحرب... أي حرب؟

16 اغسطس 2023
+ الخط -

توالت الحوادث المقلقة في لبنان في الأيام الماضية، وكان أشدّها مدعاةً للقلق، بعد اشتباكات مخيم عين الحلوة للاجئين الفلسطينيين، طلب السعودية والكويت وألمانيا المفاجئ من رعاياها مغادرة لبنان. وإذ أدْخَل هذا الطلب القلق والخشية في قلوب اللبنانيين من احتمال وقوع حرب داخلية أهلية، أتى تهديد وزير الدفاع الإسرائيلي بإعادة لبنان إلى العصر الحجري، إذا ارتكب حزب الله أي خطاً يؤدّي إلى مواجهة بينه وبين دولة الاحتلال، ليزيد من هذا القلق. لكن إذا كان في الداخل اللبناني من يحذّر من حرب أهلية، فهي حربٌ لم يُنزع فتيلها مرّةً منذ انتهاء الحرب الأهلية التي ضربت البلاد أواخر القرن الماضي لسببٍ بسيط، هو غياب دولة المؤسسات لصالح دولة الطوائف، وتقاسُم البلد بين زعامات هذه الطوائف التي تُكوِّن نظامه وتحرُسه. فأي حرب يمكن أن يشهدها لبنان؟ وإذا اندلعت حربٌ ما في هذه البلاد، ما الذي سيبقى من لبنان الذي نعرفه؟

تكمن الغرابة في القلق الذي استجدّ بعد الطلب السعودي والكويتي والألماني بمغادرة الرعايا، مخافة تفجُّر الأوضاع داخلياً، إذ متى كان لبنان بعيداً عن الحرب الأهلية؟ وهي الحرب التي يمكن أن تندلع إذا ما اندلع شجارٌ في حي مختلط طائفياً، أو إذا ما تخاصم سائقان على إشارة المرور في بيروت أو غيرها من المدن، أو حتى إذا ما تساجلت مجموعاتٌ على مواقع التواصل الاجتماعي؟ ومتى كان لبنان بعيداً عن حربٍ مع دولة الاحتلال؟ حربٌ سببها الدائم غياب استراتيجية دفاعية لما تبقّى من دولة، دولة تكون مهمتها إيجاد حل سلمي لمشكلاتها الحدودية مع العدو لكيلا تبقى لغماً قابلاً للتفجير في أي وقت. وهو اللغم الذي ساهم في استمرار وجود حزب الله فصيلاً عسكرياً، ساهم بدوره في تغييب الدولة ومنعها من تحمّل مسؤولية الدفاع عن حدودها في وجه الاعتداءات الإسرائيلية. وجودٌ جعل احتمال المواجهة مع دولة الاحتلال قائماً على الدوام، ويمكن أن تتسبّب به رصاصة طائشة على الحدود. لذلك أطلق وزير الدفاع الإسرائيلي تهديده ثقيل العيار، في 8 أغسطس/ آب الجاري، بعد نصب حزب الله خيمتين قرب الحدود اللبنانية الفلسطينية، وبعدما تقدّم عدة أشخاص لبنانيين يُشتبه بانتمائهم لحزب الله، نحو السياج الحدودي، أواسط الشهر الماضي (يوليو/ تموز)، وأبعدهم الجنود الإسرائيليون بإلقاء قنبلةٍ أصابت ثلاثة منهم.

لا دولة في لبنان سوى الدولة التي تدير دويلات الطوائف، ولا رئيس لهذه الدولة سوى الرئيس الذي تتوافق عليه الطوائف

ربما تكون حادثة الكحّالة الدليل الأنصع عما يُمكن أن يصل إليه لبنان بسبب السلاح المتفلِّت والخارج عن سيطرة الدولة، الغائبة هذه الأيام، والعاجزة عن انتخاب رئيسٍ يوجّه عمل دويلات الطوائف، فقد أظهر انقلاب شاحنة في بلدة الكحّالة في البقاع، والتي يسكنها مسيحيون، في 9 أغسطس/ آب الجاري، على أحد المنعطفات الخطرة، واكتشاف الأهالي أن الشاحنة تعود لحزب الله، وكانت تنقل ذخائر للحزب، أظهر مدى الاحتقان الذي يعتمل بالنفوس. لذلك كانت السرعة في تحوُّل المشهد إلى عنفي لدى مسارعة الأهالي لنجدة السائق واكتشافهم حقيقة الشحنة. ثم تطوّر الأمر إلى تبادل لإطلاق النار بين عناصر الحراسة التابعين للحزب وأهالي البلدة، لمنعهم من الاقتراب من الشاحنة فأسفر الاشتباك عن مقتل شخصين من الطرفين وجرح آخرين. ولم يتوقّف الأمر هنا، فقد انتقلت العدوانية ومظاهر التنافر الطائفي والسياسي إلى مواقع التواصل الاجتماعي، وبدأ الذباب الإلكتروني لكل طرفٍ يهاجم الطرف الآخر، ويضع سيناريوهات تساهم في شحن نفوس كل طرف، ما جعل الناس تحبس أنفاسها مترقبةً حصول كارثة، فاللبنانيون يتوقّعون دائماً حصول أسوأ ما يمكن للمتشائمين توقعه.

لا ندري ما هو موقف أنصار النظام الطائفي من هذا الإشكال الأمني الخطير والمهدّد، وهم الذين يسوقون نظام التسامح والتعايش الطائفي الذي يدَّعي تعايشاً اجتماعياً وسياسياً في البلاد، وتُعلي تركيبته الطائفية من "فرادة لبنان". هذه الفرادة التي سوّقوها حتى قبل استقلال البلاد سنة 1943، والتي دافعوا عنها منعاً لتغييرها؛ إذ يفرض تغييرها، بالضرورة، بناء دولة مؤسّسات، ستكون في الواقع نقيضاً لدولة الطوائف فتلفظهم. وانطلاقاً من مبدأ أن الفرادة لا يمكن أن يطاولها التغيير، يصرّ زعماء الطوائف على صيغة التعايش المشترك بين الطوائف، وهي التي أخذت شكل القانون، حين جُعِل لها اتفاق، هو اتفاق الطائف 1989، بين زعماء الطوائف وأمراء الحرب الأهلية، حماها من التغيير، فأنقذ النظام الطائفي من دون أن ينقذ البلاد.

أنقذ اتفاق الطائف النظام الطائفي وترك البلاد في مهبّ حربٍ طائفيةٍ قد تقع في أي لحظة

لم يُنقذ ذلك الاتفاق البلاد، أنقذ النظام الطائفي وترك البلاد في مهبّ حربٍ طائفيةٍ قد تقع في أي لحظة، لأنه أسّس لتكريس الفرادة اللبنانية الآتية من تعايش طوائفه، حين نصّ على تقسيم مؤسّسات البلاد التشريعية والتنفيذية بين الطوائف، وبالتالي، جعل مبدأ التحاصص الطائفي عُرفاً قائماً وقابلاً للعيش وربما غير قابل للتغيير. ولم يمنع اندلاع تلك الحرب سوى فائض القوة المتوفر لدى فصيل عسكريٍّ تابع لإحدى الطوائف دون الطوائف الأخرى، غير أن حادثة الكحالة أظهرت أن التسليح لم يعد حكراً على حزب الله، لو اختلفت النوعية والمدى المجدي للأسلحة.

ولا تتوقّف الإشارات الآتية من زعماء الطوائف، وتريد أن تؤكّد لنا أنهم هم المتحكّمون الأبديون بالبلاد؛ هم الذين يمنعون مؤسّساتها من أن تقوم وأن تدير عملها على الوجه الصحيح، هم الذين يحدّدون مدى فساد حاكم مصرف البلاد المركزي أو صلاحه، وليس القانون المحلي أو الدولي، هم الذين يقرّرون انتخاب رئيس للبلاد أو جعل البلاد بلا رئيس إلى آجالٍ يقرّرون نهايتها. وهم بذلك لا يفعلون سوى توجيه رسالة واضحة إلى أهل البلاد ومن يهمّه الأمر في البلدان الأخرى: لا دولة في لبنان سوى الدولة التي تدير دويلات الطوائف، ولا رئيس لهذه الدولة سوى الرئيس الذي تتوافق عليه الطوائف. وإذ تستمر صيغة الحكم هذه عصيةً على التغيير، تبقى فرادة لبنان الطائفية حيّة تُرزق، ومعها تبقى نذر الحرب قائمة، سواء أخذت شكل حربٍ أهليةٍ طائفيةٍ، أو شكل مغامرةٍ على الحدود، لا هم لديهم إذا أعادت لبنان إلى العصر الحجري، كما يهدّد الأعداء.

46A94F74-0E6B-4FEC-BFDA-803FB7C9ADA6
مالك ونوس

كاتب ومترجم سوري، نشر ترجمات ومقالات في صحف ودوريات سورية ولبنانية وخليجية، نقل إلى العربية كتاب "غزة حافظوا على إنسانيتكم" للمتضامن الدولي فيتوريو أريغوني، وصدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.