لبنان: "ماتريوشكا" الموارنة

11 مارس 2023
+ الخط -

قصص الموارنة في لبنان أشبه بلعبة "ماتريوشكا" الروسية: قصة داخل قصة داخل قصة... إلى ما لا نهاية. منذ عام 1943، أي تاريخ إعلان استقلال لبنان والتوافق على أن يكون منصب رئاسة الجمهورية من حصّة الموارنة، بات هدف كل عاملٍ في الشأن العام، ينتمي للطائفة المارونية، هو رئاسة الجمهورية. في الواقع، إذا كنت مارونياً وتجاوزت سن الـ25 ولم تكن من موظفي الفئة الأولى ولا صاحب شهرة ولا يعرفك سوى أفراد بيئتك الخاصة، فإنك مرشّح لرئاسة البلاد من حيث تدري أو لا تدري.

من أجل هذه السنوات الست، وهي مدّة ولاية كل رئيس، سقطت المحاذير جميعها. اغتيل رئيسان قبل بدء عهديهما: بشير الجميل ورينيه معوض. ساد الشغور الرئاسي أربع مرّات: بين عامي 1988 و1989، وبين 2007 و2008، وبين 2014 و2016، والرابعة بدأت في أواخر العام الماضي (2022). حصل التمديد للرئيس مرّات عدّة، حتى إن الانتخابات الوحيدة التي كانت "طبيعية" بالمفهوم "الديمقراطي" كانت في عام 1970، حين اتفق الثلاثي الماروني القوي في حينه، بيار الجميل وكميل شمعون وريمون إدّة، على انتخاب سليمان فرنجية (جد المرشّح الحالي سليمان فرنجية، المدعوم من حزب الله وحركة أمل) رئيساً.

وسط هذا كله، لم تعد صلاحيات منصب الرئاسة مثل ما كانت في السابق، بعد عملية توزيع السلطات بموجب اتفاق الطائف، الموقّع في 1989، والذي أنهى حرب لبنان (1975 ـ 1990). لم يعد الموارنة ذا ثقل ديمغرافي في البلاد، كما أن تشتّتهم السياسي أشهر من نار على علم. والأهم أن سياسييهم لا يتفاعلون مع هذه التطوّرات على قاعدة "لندرك حجمنا"، بل إن سلوكهم السياسي مكرّس بفوقيةٍ لا تُضاهى.

الآن، يؤخذ كل هذا التردّي في الصفوف السياسية المارونية، ويُمزَج مع الأزمة الطاحنة التي تعصف بلبنان، فما المُنتج الذي يخرج؟ مرشّحون رئاسيون، قادرون على مواجهة بعضهم بعضاً، لكنهم غير قادرين على فرض عملية إنقاذٍ في لبنان، تسمح بانتشال البلاد من دوامة السقوط الحرّ. إن سُئل أي مرشّح ماروني، من دون استثناء، عن خططه الاقتصادية، فلن تسمع أكثر من كلام عام. وإن سُئل عن الذهنية التي يُفترض أن يدير بها حكم لبنان، فسيقول "الديمقراطية التوافقية". وإن طلبتَ منه محاسبة كل من سرق أموال الناس والدولة ونهبها، فسيردّ: "البلد لا يتحمّل حرباً أهلية".

حسناً، أي رئيسٍ لن يُحاسب ولا يفرض تغييراً، وفقاً لصلاحياته، ولا يرمي اللصوص في السجون، ولا يعيد رسم خرائط طبية وتعليمية صحيحة، ولا يعبّد طريقاً لإنشاء بنى تحتية بعيدة عن فساد المتعهّدين، ولا ينظف السلكين القضائي والأمني، ولا يحافظ على استقلالية لبنان جاعلاً من الجيش السلطة الشرعية الوحيدة عسكرياً.. حينها ما الذي سيفعله هذا الرئيس؟

لا يريد اللبنانيون رؤساء مثل الذين مرّوا في تاريخهم. لكل زمن رئيس، وفي زمننا على الرئيس أن يكون صاحب رؤية إنقاذية، لا صاحب شعارات عامة ومهادنا ويخشى التغيير وإطاحة الدولة العميقة. على الرئيس الجديد ألا يجزع من تبديل جنرالاته في الحروب، مثل ما فعل الرئيسان الروسي فلاديمير بوتين والأوكراني فولوديمير زيلينسكي. لن يجلس الرئيس المقبل في القصر الرئاسي في بعبدا، ويستقبل الزوار بصورة رتيبة ومملّة، بل يستيقظ كل صباح مع فرق عمل استشارية وفنية، تجتهد على مدار الساعة، يقوم بزياراتٍ وجولاتٍ حيث يقتضي الأمر، ولا يحيط نفسه بمستشارين يقدّمون له الطاعة لترتاح "الأنا" الخاصة به، بل يحتاج "محاميَ الشيطان" لتغيير مجرى الأحدات السقيم في لبنان.

لا يحتاج اللبنانيون رئيسا مارونيا يتصرّف كسيّد إقطاعيةٍ تجاوزها الزمن، بل يريدون رئيساً قادراً على وضع رحلة العودة إلى الدولة وإنهاء الحقبة السوداء التي تعيشها البلاد. الأسماء هنا تُصبح تفاصيل أمام هدفٍ يُفترض أنه واضح.

6F7A33BD-9207-4660-8AF7-0EF5E3A4CD6C
بيار عقيقي
صحافي لبناني، عمل في صحف ومجلات ودوريات ومواقع لبنانية وعربية عدّة. من فريق عمل قسم السياسة في الصحيفة الورقية لـ"العربي الجديد".