لبنان "غريق" الإهمال السياسي
اعتاد اللبناني سماع كلمة "الطريق مقطوعة" بسبب الثورة التي ضربت لبنان من شماله إلى جنوبه، في 17 أكتوبر/ تشرين الأول 2019، حيث تعمّد بعضهم إشعال الإطارات لقطع الطرقات اعتراضًا، بهدف ممارسة مزيد من الضغط على المسؤول، كي يتنحّى عن السلطة، بعدما رفع المتظاهرون شعار إسقاط المسؤولين "كلّن يعني كلّن".
خفتت وتيرة التحرّكات الثورية على الأرض وفتحت جميع الطرقات، إلا أنّ عبارة "علقنا على الطرقات" ظلّ اللبناني يردّدها، ولكن بصيغتها الجديدة "غرقنا على الطرقات". هذه المرّة ليس بسبب الثوار، بل بسبب تقاعس المسؤول عن أداء واجباته من فتح (وتنظيف) التصريفات لمياه الأمطار التي شكلت سيولًا جارفة اقتحمت في أماكن عديدة حرمات المنازل، ودخلتها من دون استئذان.
في مشهد متكرّر، غمرت مياه الأمطار طرقات لبنان، ما أدّى إلى احتجاز المواطنين ساعات داخل سياراتهم. غرق لبنان من إهمال الجهات المعنية لأبسط واجباتها، إن من جهة تنظيف المجاري، أو إعادة تأهيل البنى التحتية بما يتناسب مع النمو الديمغرافي الحاصل، فأغلبية هذه البنى تعود إلى الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، حيث جرى وضعها بحسب أعداد السكان يومها.
هي ليست "الشتوة" الأولى التي أغرقت جونية وطرقاتها، وتشكّلت السيول في القرى المجاورة، حيث جرفت السيارات في بعض المناطق، كفرحباب على سبيل المثال، واحتجز اللبناني داخل سيارته. ليست المشكلة في تساقط الأمطار الغزيرة، بل هي ناجمة عن إهمال المسؤول القيام بواجباته، الأمر الذي يظهر أن "اللامسؤولية" تتوزّع على أكثر من جهة؛ فهي تقع أيضًا على عاتق المواطن الذي تخلى عن واجباته التي كرّسها القانون، وهي المحاسبة عبر صناديق الاقتراع للمجالس البلدية، أو لأعضاء المجلس النيابي، ليعيد انتخاب الطبقة نفسها التي أوصلت البلاد إلى "جهنّم".
لم يحاسَب مسؤول في لبنان عن فساده، بل جيّر القوانين خدمة للحفاظ على أطماعه
لم يبدأ الشتاء بعد، وينتظر اللبنانيون فصل خير مليئًا بالأمطار الغزيرة، وفق تقديرات انتشرت أخيرًا، تفيد بأن معدلات تساقط الأمطار قد تكون أعلى من معدلاتها الموسمية، إلا أن هذه الخيرات قد تكون بمثابة "نقمة" على اللبنانيين، لا سيما أن هناك غيابًا تامًّا للمسؤولين من حيث القيام بما عليهم من مسؤوليات.
تبادل المسؤولون الاتهام بالتقصير، إذ وجهت وزارة الأشغال اتهامًا للبلديات المعنية بعدم قيامها بما يترتب عليها من تنظيفات روتينية قبل بدء فصل الشتاء، لهذا نشر وزير الأشغال في الحكومة المستقيلة فيديوهات تظهر الإهمال الحاصل من بلديات المنطقة، والتي أدت إلى تشكيل السيول. وألقت البلديات اللوم على غياب دور الوزارة في رصد الميزانية المستحقة عليها تجاه البلديات لتنفيذ التنظيفات والصيانة، بسبب غياب اجتماعات مجلس الوزراء لإقرار دفع المستحقات. فبين الوزارة والبلدية، غرق لبنان، لكن المسؤولية لا تقف هنا، بل أيضًا عند المواطن الذي اعتاد أن يرمي النفايات على الطرقات من دون حسيب، ما أدّى إلى إغلاق المجاري والتصريفات، لهذا تعوم المياه مشكّلة بركًا ومستنقعات. هي مسؤولية يجب أن يتحملها الجميع، ولو بنسب متفاوتة، إلا أن توزيع المسؤوليات هو لمحاسبة كل من كان السبب في ذلك.
الطبيعة وحدها لا تغرق لبنان، بل يشارك مسؤولوه في هذا، فالبلد الذي دخل شغورًا حكوميًّا ورئاسيًّا، بات ينتظر شغورًا في الوظائف العليا، بعد بلوغ سنّ التقاعد من دون أن يكون هناك بديل أصيل يستلم من المتقاعد. لهذا يعيش لبنان حالة الغرق السياسي التي أوصلته إليها الكيديات السياسية التي يمارسها الأفرقاء بحق بعضهم بعضا، حيث تتعمّق الأزمة الاقتصادية، وتزداد معها نسبة الجرائم من قتل وسرقة، كي يصل البلد إلى حالة الفوضى الشاملة والانهيار الحرّ لكل مؤسساته، عندها يحتاج إلى عملية إنعاش جديدة، تكون بمؤتمر تأسيسي جديد، ترعاه دول داعمة وحاضنة.
أفرقاء الداخل يعملون على تأمين مصالح مموليهم وداعميهم وليس مصالح لبنان
بات لبنان غريق الفشل في إدارة مؤسساته، ونهب "طغمة" حكمته منذ الطائف عام 1990 ماله العام، إذ لم يحاسَب مسؤول عن فساده، بل جيّر القوانين خدمة للحفاظ على أطماعه، إذ قونن الجريمة، وزرع ثقافة الفساد، وألغى المواطنية لتحلّ مكانها الزبائنية.
إنه لبنان الغريق في لعبة الأمم، حيث التدخلات الدولية والإقليمية واضحة، فهناك أفرقاء الداخل الذين يعملون على تأمين مصالح مموليهم وداعميهم، فالجولات التي يقوم بها سفير السعودية في لبنان، وليد البخاري، أكثر من واضحة في عرقلة الاستحقاقات التي لا تصبّ في صالح المملكة. كما أن تصريح المرشد الأعلى في إيران، بأن سياسات بلاده في لبنان والعراق وسورية قد أفشلت المخططات الأميركية في المنطقة، دليل يؤكّد مدى الانخراط في الحياة السياسية اللبنانية بكل تفاصيلها.
لا يستطيع لبنان العوم وحيدًا، فبناء المسؤول "الدولة الرخوة" دليل على التفلت من العقاب، مهما كانت الجريمة التي اقترفها، فانفجار المرفأ الذي ضرب بيروت في أغسطس/ آب 2020، واعتبر الأعنف في العالم المعاصر، لم يُحاسب مفتعلوه، سهوًا أم عمدًا. لا محاسبة ولا رقابة، بل قرارات اعتباطية تُغرق لبنان أكثر، تمامًا كقرار رفع سعر صرف الدولار بالعملة الوطنية إلى 15000 ألف ليرة، ما جعل محللين اقتصاديين يجمعون على التخوّف من الانهيار، وفتح البلاد على جشع التجار.
لن يستطيع لبنان العوم في الوقت الحالي، ولن يقدر على الوقوف مجدّدًا، مهما أرسل الفرنسي من تطمينات، أو جرى التوصل إلى ترسيم الحدود البحرية مع الكيان الصهيوني. لهذا سيبقى لبنان غريقًا طالما الطبقة الحاكمة لم تزل في موقع القرار والسلطة والمواطن يهتف بحياتهم.