لبنان المنبثق من الخيال
إذا قُيّض لشخص الجلوس من علٍ ومشاهدة لبنان، فلن يتمكّن من ملاحقة كل تفصيل فيه جرّاء تسارع الأحداث المتشابكة عمودياً وأفقياً وتناسلها في كل جيل، غير أن في وسعه التركيز على جزئية محدّدة: الفن اللبناني الوطني الذي كرّس وهماً، تتضح هشاشته أكثر فأكثر مع مرور الزمن. قف لحظةً، واصغ إلى وديع الصافي يغني "سيّجنا لبنان وعلّينا سياجو، وهالبيت العمران مشعشع بسراجو"، ثم انظر إلى السياج غير المرئي، ومئات آلاف المنازل المظلمة، لن تشهد على تناقض صوريّ فحسب، بل على تباعد خطّين لن يلتقيا أبداً: لبنان الأغنية الوهمية ولبنان الحقيقة الدامسة.
حاول أن تستمع إلى زكي ناصيف "راجع راجع يتعمّر راجع لبنان، راجع متحلّي وأخضر أكتر ما كان"، حينها ستكون شاهداً على كيفية صناعة أسطورة، ونقلها إلى أجيالٍ مستقبلية، إن وُلدت في هذه البلاد. لن يكون الأمر شبيهاً بالأساطير النوردية في النرويج والسويد وآيسلندا وفنلندا والدنمارك، بل سيكون مؤلماً بشدّة، لأن البلاد الاسكندنافية تصالحت مع ذواتها، فيما أنت لا تزال تبحث عن نفسك غير المطمئنة في عالمٍ تجاوز حدّ الواقعية.
انصت قليلاً لفيروز، تاج الأغنية الأزلية "سألوني شو صاير ببلد العيد، مزروعة عالداير نار وبواريد، قلتلن بلدنا عم يخلق جديد، لبنان الكرامة والشعب العنيد". هنا لا بد أن يتوقف معك التاريخ، في محطّات أشبه بدياجير حالكة لم تستولد فجراً ترقص في أطيافه شمسٌ تولد من خلف الجبال. محطّات حروب وعنف وقتل ودمار، تليها مراحل تدعى "إعادة إعمار"، لكنها حقبات ينقل فيها أبطال الحرب طقوسها إلى قلب سلام، يتمنّاه كثر لو لم يخلق، لكونه مستوى جديدا من الحرب، بسبب الفساد وغياب تطبيق القوانين وانعدام مفهوم المحاسبة.
تحاول تغيير النمط الموسيقي إلى الزجل اللبناني الذي ذاع صيته في عقود ما قبل الحرب (1975 ـ 1990)، الذي دار في أكثره حول لبنان وطبيعته وناسه ومفهوم "الوداعة الهادة"، وفي الوقت عينه قارنه بما حصل في مرحلة ما بين استقلال 1943 وعشية الحرب في 1975، من تدفق الأموال وغسلها وقيام أنشطة تهريب للمخدرات لأسباب عدة، غير مبنيةٍ سوى على "السرّية المصرفية"، لا على ركائز اقتصاد لبناني متطوّر. صدقاً، لن تتمكّن من متابعة القصائد والموشّحات وكل صنوف الشِعِر، بل ستتململ في قالبٍ من المشاعر التي لا يُمكن وصفها ولا تحديد ماهيّتها، وقد يكون مصطلح "الاستغراب" الأقرب إليها، لكنه لن يصيبها بدقّة.
عدّل في جلستك، واسمع نشيداً وطنياً صادحاً، صحيحٌ أنه مستنسخٌ من نشيد جمهورية الريف في المغرب في عشرينيات القرن الماضي. لكن لا عليك، اسمعه، خصوصاً لازمته "كلنا للوطن، للعلى للعلم". الضحكة ستزيّن وجهك، وستعتقد أنك أمام حكاية كوميدية. لم يكتب التاريخ يوماً أن اللبنانيين اتّحدوا في سبيل أمر ما، حتى في مباراة رياضية، لا بل أن النشيد وعلم البلاد وتاريخها دائماً ما تكون موضع نقاش، ينطلق فيه كل فردٍ من خلفية طائفية - مناطقية، في غياب أي كتاب تاريخ واحد أو كتاب تربية مدنية موحّد.
الآن، لم يعد عليك الاستماع لشيء، فضوضاء الخيال- وزحمة الأوهام- لن تجعلك تستمتع بما تبقى، كاستمتاعك في مسلسل "غايم أوف ثرونز" مثلاً، بل ستشعر كأي فردٍ لا يزال يفكّر بعقله، لا بغريزته، بأن التمعّن في تناقضات الأغاني الوطنية اللبنانية مع الواقع المتردّي، سيصيب المستمع بالكآبة. ويحسّ بأن كثافة التناقضات لم تخلق وهماً فحسب، ولا صاغت أسطورة على درب الخلود، بل قتلت كل ما في الدنيا من تفكيرٍ منطقي، وجعلت من لبنان وطناً لن تنفع معه ملايين الجلسات من العلاج النفسي، ووضعته على فوّهة حقيقة واحدة: كنت وطناً منبثقاً من خيال، يستحيل أن تصبح حقيقة. وكل مولودٍ من خيالٍ سيعود إلى الخيال.