17 نوفمبر 2024
لبنان.. العنصرية لمواجهة صفقة القرن!
تعبّر الحملة العنصرية التي ترافقت، وحتى سبقت، قرار وزير العمل اللبناني، التعامل مع اللاجئين الفلسطينيين في بلاده باعتبارهم عمالة وافدة، عن التقاء معايير الطائفية والعنصرية بعقلية نيوليبرالية لا تعترف لا بالحقوق العمالية، ولا الحقوق المدنية (أو الوطنية)، وتضع الفلسطيني عدوا للبناني العامل والمسحوق، ومنافسا على لقمة عيشه. ويثير توقيت القرار الذي تعامل مع اللاجئين على أنهم حالة جديدة، وكأن في استطاعتهم حزم أمتعتهم والعودة إلى وطنهم، شكوكا موجودة أصلا عن ترافق غير بريء، أو على الأقل غير مفهوم، مع الضغوط التي تمارسها واشنطن لفرض استسلام كامل للخطة الأميركية المسمّاة "صفقة القرن"، بغرض تصفية الحقوق الوطنية الفلسطينية، وفي مقدمتها حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى ديارهم، أي أن الطائفية العنصرية وترتيبات السوق الرأسمالي تجتمع في مسار واحد لخنق الفلسطينيين، بغض النظر عن تباين الدوافع السياسية والاجتماعية للأطراف المختلفة التي تغذّي العنصرية لدى اللبنانيين.
لا علاقة لبعض ما يحدث بأي مخطط أميركي، وهو جزء من المشهد العالمي، إذ نجد قوى رأس المال العالمية وحكومات تشجع على الكراهية، وتدعم تياراتٍ يمينيةً متطرفة، توجه حقدها على من هو مختلف في اللون والعرق والدين، وتلقي عليه اللوم في تداعيات الأزمات الاقتصادية الاجتماعية من فقر وبطالة في أوروبا والولايات المتحدة، امتدادا إلى كل العالم الغربي ودول الجنوب، وهذا جزء كبير مما يحدث في لبنان، مضافا إليه في هذا البلد البعد السياسي، المتمثل في محاصرة الفلسطينيين، ودفعهم إلى التخلي عن حقوقهم الوطنية المشروعة والمتجذرة.
ما يزيد المسألة في لبنان تعقيدا وخطرا أن نظام التقاسم الطائفي يسمح بالطائفية نهجاً يستخدمه
المتنفذون في الأحزاب وأمراء الطوائف، بتوظيف تأجيج نعرات استعلائية وإقصائية في معركة النفوذ والمواقع واقتسام الثروات، فوزير العمل اللبناني، كميل أبو سليمان، لا يعمل في معزل عن توجهات حزب القوات اللبنانية الطائفية، ولا في معزل عن توجه طبقي لنخبة عابرة للحدود، بحكم عمله في مكتب محاماة عالمي في لندن ونيويورك، فقد تعامل مع موضوع تنظيم عمل الوافدين وكأنه يتخذ إجراءات لا تمس حياة الناس، ولذلك بدت مفاجأته بما استقبل به قراره من احتجاجات ساخطة أشبه بردة فعل غير العارف، أو غير المهتم بمعنى إقصاء اللاجئين الفلسطينيين عقودا عن الانخراط الطبيعي في الحياة اللبنانية.
تعامُل الوزير مع الفلسطينيين ينطوي على تجاهل متعمد لمساهمتهم في الاقتصاد اللبناني، ولكل التفاهمات الضمنية والصريحة بشأن خصوصية وضعهم في لبنان، وذلك بإجراءات تجعل حياتهم أكثر صعوبة مما هي عليه، خصوصا أنه لا مكان لهم يذهبون إليه. ولكن تصريحات الوزير أبو سليمان كشفت حقيقة كبرى، فحين سئل في برنامج تلفزيوني ما إذا كان يؤمن بإعطاء الفلسطينيين الحقوق المدنية، أجاب بإصرار "لا"، من دون أن يفكر أو يرمش له جفن.
ما الذي يجعل محاميا لامعا، خريج جامعة هارفرد، ويعمل في أحد أهم مكاتب المحاماة العالمية، يجهر بعدائه فئة ما، ويرى حرمانها من حقوق مدنية متساوية؟ هل يجرؤ أخذ موقف كهذا في أحد المؤتمرات الحقوقية العالمية، إلا إذا كان قد قرّر التماهي مع جماعات اليمين المتطرف في أميركا وأوروبا؟ قد يكون أحد الأجوبة في عضوية هذا المحامي الوزير في حزب القوات اللبنانية الذي يمثل طائفية مارونية معلنة، وفي أن هذا الحزب امتداد لحزب الكتائب، وتعامل بعض قادته التاريخيين مع إسرائيل، ولكن ذلك لا يجيب على السؤال تماما، فقد صفق حضور البرنامج التلفزيوني في الاستوديو له بقوة، ما يدل على أنها أزمة أوسع من شخصية هذا الوزير.
يخيف انخراط الفلسطينيين في الحياة اللبنانية بشكل ظاهر بعض الأحزاب اللبنانية المسيحية من اتساع دائرة السنّة، بمعنى سياسي بشكل خاص، ولكن هذا لا ينطبق تماماً على الواقع الراهن، فأهم فريق سياسي سني (ولا أقول السنة)، بزعامة رئيس الحكومة، سعد الحريري، في ائتلاف مع حزبي الكتائب والقوات اللبنانية. كما أن هناك خوفا يمينيا أيضا بين متنفذين من سياسيي السنة من تأثير حزب الله على الفلسطينيين، على الرغم من تحالف التيار الوطني الحر (الماروني)، بقيادة رئيس الجمهورية ميشال عون مع حزب الله وحزب أمل الشيعيين. ولا
تعكس خريطة التوازنات والتقسيمات الطائفية السياسية المجتمع اللبناني، فهناك أصوات وقوى من كل الطوائف تضع المصلحة الوطنية اللبنانية أولوية، وهي واضحة في تأييدها الحق الوطني الفلسطيني، ومؤمنة بالحقوق المدنية، وتتصارع مع الموجة الجديدة من العنصرية، وتعي خطر ما تسمى صفقة القرن على لبنان والقضية الفلسطينية. وتمثل هذه الأصوات والقوى ضمانة للدفاع عن حق أي فئة مستهدفة، وللنضال ضد تدهور الوضع إلى استباحة الفلسطينيين واللاجئين السوريين واستهدافهم، فالعنصرية واحدة في الحالتين، مع اختلاف الخصوصية السياسية لكل من السوريين والفلسطينيين.
ولكن تعبيرات العنصرية المتمثلة في أعمال فنية، أو إعلانات سخيفة على قنوات فضائية، والأخطر تصريحات التفوق الجيني التي أطلقها وزير الخارجية جبران باسيل، وادعاء وزير العمل، كميل أبو سليمان، أنه لا يثق بغير العامل اللبناني، متجاهلا أنه نفسه عمل، معظم سنوات عمره، في دول تستطيع، بمنطقه نفسه، أن لا تعطيه فرصة أو حقوقا، إضافة إلى أن التجاذبات التي فجّرها قرار هذا الوزير بخصوص الفلسطينيين كلها تعمل على تحريض المجتمع المثقل بأزمته الاقتصادية والمعيشية ضد عدو محدّد، وهو الفلسطيني، إضافة إلى اللاجئ السوري، بدلاً من مواجهة النخبة الحاكمة.
عن أي تفوق جيني يتحدّث جبران باسيل، وحبذا لو فحص جيناته، ليجد، كما عنصريين كثيرين في العالم، أنه لا يوجد تفوق أو نقاء عنصري أو جيني، لعله يتواضع إنسانيا ولو قليلاً. وليراجع أبو سليمان كيف ضاعت ثقافته الحقوقية حين تقلص إلى طائفي ضيق العقل أمام إغراء السلطة. وليس المقصود من هذا الحديث أن الفلسطيني أسوأ من اللبناني أو أفضل منه، أو من غيره، بل أن للناس حقوقا، والتمييز لأسباب وأغراض سياسية هو انتقاص لإنسانيتهم، لا يمكن السكوت عليه.
أقبح ما في الموضوع، وهذا متوقع، أن تبرّر أصواتٌ انعزالية من داخل الحكومة والأحزاب اللبنانية استهداف الفلسطينيين بأنه حماية من التوطين وحماية لحق العودة. من يبرّر التمييز ضد الفلسطينيين لا يؤمن بأي حقوق لهم، إن كانت حقوق عمل أو حقوقا إنسانية. والفلسطيني متمسك بحق العودة، وحصاره وتجويعه أداتان لتطويعه، وليس لتعزيز صموده أمام المخطط الأميركي المعلن، أو لما تشيعه أي جهة تناصر انتقاص حقوقه بذريعة مقاومة صفقة القرن، فهذه كلها حجج تنبع من عنصرية دفينة، أو تغطية للتواطؤ مع فريق ترامب اليميني الصهيوني، فالعنصرية واضطهاد الفلسطينيين ليسا مواجهة لصفقة القرن، بل تمهيد لها.
لا علاقة لبعض ما يحدث بأي مخطط أميركي، وهو جزء من المشهد العالمي، إذ نجد قوى رأس المال العالمية وحكومات تشجع على الكراهية، وتدعم تياراتٍ يمينيةً متطرفة، توجه حقدها على من هو مختلف في اللون والعرق والدين، وتلقي عليه اللوم في تداعيات الأزمات الاقتصادية الاجتماعية من فقر وبطالة في أوروبا والولايات المتحدة، امتدادا إلى كل العالم الغربي ودول الجنوب، وهذا جزء كبير مما يحدث في لبنان، مضافا إليه في هذا البلد البعد السياسي، المتمثل في محاصرة الفلسطينيين، ودفعهم إلى التخلي عن حقوقهم الوطنية المشروعة والمتجذرة.
ما يزيد المسألة في لبنان تعقيدا وخطرا أن نظام التقاسم الطائفي يسمح بالطائفية نهجاً يستخدمه
تعامُل الوزير مع الفلسطينيين ينطوي على تجاهل متعمد لمساهمتهم في الاقتصاد اللبناني، ولكل التفاهمات الضمنية والصريحة بشأن خصوصية وضعهم في لبنان، وذلك بإجراءات تجعل حياتهم أكثر صعوبة مما هي عليه، خصوصا أنه لا مكان لهم يذهبون إليه. ولكن تصريحات الوزير أبو سليمان كشفت حقيقة كبرى، فحين سئل في برنامج تلفزيوني ما إذا كان يؤمن بإعطاء الفلسطينيين الحقوق المدنية، أجاب بإصرار "لا"، من دون أن يفكر أو يرمش له جفن.
ما الذي يجعل محاميا لامعا، خريج جامعة هارفرد، ويعمل في أحد أهم مكاتب المحاماة العالمية، يجهر بعدائه فئة ما، ويرى حرمانها من حقوق مدنية متساوية؟ هل يجرؤ أخذ موقف كهذا في أحد المؤتمرات الحقوقية العالمية، إلا إذا كان قد قرّر التماهي مع جماعات اليمين المتطرف في أميركا وأوروبا؟ قد يكون أحد الأجوبة في عضوية هذا المحامي الوزير في حزب القوات اللبنانية الذي يمثل طائفية مارونية معلنة، وفي أن هذا الحزب امتداد لحزب الكتائب، وتعامل بعض قادته التاريخيين مع إسرائيل، ولكن ذلك لا يجيب على السؤال تماما، فقد صفق حضور البرنامج التلفزيوني في الاستوديو له بقوة، ما يدل على أنها أزمة أوسع من شخصية هذا الوزير.
يخيف انخراط الفلسطينيين في الحياة اللبنانية بشكل ظاهر بعض الأحزاب اللبنانية المسيحية من اتساع دائرة السنّة، بمعنى سياسي بشكل خاص، ولكن هذا لا ينطبق تماماً على الواقع الراهن، فأهم فريق سياسي سني (ولا أقول السنة)، بزعامة رئيس الحكومة، سعد الحريري، في ائتلاف مع حزبي الكتائب والقوات اللبنانية. كما أن هناك خوفا يمينيا أيضا بين متنفذين من سياسيي السنة من تأثير حزب الله على الفلسطينيين، على الرغم من تحالف التيار الوطني الحر (الماروني)، بقيادة رئيس الجمهورية ميشال عون مع حزب الله وحزب أمل الشيعيين. ولا
ولكن تعبيرات العنصرية المتمثلة في أعمال فنية، أو إعلانات سخيفة على قنوات فضائية، والأخطر تصريحات التفوق الجيني التي أطلقها وزير الخارجية جبران باسيل، وادعاء وزير العمل، كميل أبو سليمان، أنه لا يثق بغير العامل اللبناني، متجاهلا أنه نفسه عمل، معظم سنوات عمره، في دول تستطيع، بمنطقه نفسه، أن لا تعطيه فرصة أو حقوقا، إضافة إلى أن التجاذبات التي فجّرها قرار هذا الوزير بخصوص الفلسطينيين كلها تعمل على تحريض المجتمع المثقل بأزمته الاقتصادية والمعيشية ضد عدو محدّد، وهو الفلسطيني، إضافة إلى اللاجئ السوري، بدلاً من مواجهة النخبة الحاكمة.
عن أي تفوق جيني يتحدّث جبران باسيل، وحبذا لو فحص جيناته، ليجد، كما عنصريين كثيرين في العالم، أنه لا يوجد تفوق أو نقاء عنصري أو جيني، لعله يتواضع إنسانيا ولو قليلاً. وليراجع أبو سليمان كيف ضاعت ثقافته الحقوقية حين تقلص إلى طائفي ضيق العقل أمام إغراء السلطة. وليس المقصود من هذا الحديث أن الفلسطيني أسوأ من اللبناني أو أفضل منه، أو من غيره، بل أن للناس حقوقا، والتمييز لأسباب وأغراض سياسية هو انتقاص لإنسانيتهم، لا يمكن السكوت عليه.
أقبح ما في الموضوع، وهذا متوقع، أن تبرّر أصواتٌ انعزالية من داخل الحكومة والأحزاب اللبنانية استهداف الفلسطينيين بأنه حماية من التوطين وحماية لحق العودة. من يبرّر التمييز ضد الفلسطينيين لا يؤمن بأي حقوق لهم، إن كانت حقوق عمل أو حقوقا إنسانية. والفلسطيني متمسك بحق العودة، وحصاره وتجويعه أداتان لتطويعه، وليس لتعزيز صموده أمام المخطط الأميركي المعلن، أو لما تشيعه أي جهة تناصر انتقاص حقوقه بذريعة مقاومة صفقة القرن، فهذه كلها حجج تنبع من عنصرية دفينة، أو تغطية للتواطؤ مع فريق ترامب اليميني الصهيوني، فالعنصرية واضطهاد الفلسطينيين ليسا مواجهة لصفقة القرن، بل تمهيد لها.
مقالات أخرى
10 نوفمبر 2024
20 أكتوبر 2024
29 سبتمبر 2024