لا فرق بين حرمة الدماء اليمنية والسورية
ثمَّة جانب مسكوتٌ عنه في أزمة تصريحات وزير الإعلام اللبناني، جورج قرداحي، بشأن ما وصفه بأنه "عدوان" سعودي إماراتي على الحوثيين في اليمن، الذين قال عنهم إنهم "يدافعون عن أنفسهم أمام عدوان خارجي". المسكوت عنه هنا متعلّق بسؤال مفاده: هل ثمَّة ما يميز دماء عن دماء، بحيث يكون سفك بعضها مستباحاً في حين يكون بعضها الآخر حراماً؟ داعي هذا السؤال أنه لا قرداحي، ومن ناصره في صفوف المحور الإيراني، ولا السعودية ومن لفّ لفها، تكرّموا علينا وأخبرونا بماذا يفرق الدم السوري المراق ظلماً وعدواناً عن الدم اليمني المسفوك هو أيضاً ظلماً وعدواناً؟ المسألة هنا ليست متعلقة بانقلابيين حوثيين، ولا فصائل وتنظيمات وجيوش متحاربة، بقدر ما أنها متعلقة بشعبين يتعرّضان لجرائم، في حين يزعم كل طرف بأخلاقياتٍ لا يملكها، ويحاول أن يدين الطرف الآخر.
قرداحي الذي اعتبر الحرب في اليمن "عبثية يجب أن تتوقف"، ودان القصف الذي يتعرّض له الحوثيون "ومنازلهم وقراهم وجنازاتهم وأفراحهم"، هو نفسه من سبق له أن اعتبر، عام 2018، الرئيس السوري ومجرم الحرب، بشار الأسد، "رجل العام"، معتبراً أنه "بصموده" في "الحرب الكونية"، منذ عام 2011، "أثبت أنه رجلٌ من طينة أخرى". أكثر من ذلك، زعم قرداحي، حينها، أنه لولا "صمود" الأسد لكان سقط لبنان والأردن ودول الخليج. تصريحات قرداحي هذه لم تكن منبتّة عن سياقٍ أوسع ينافح عنه، إذ أنه ومنذ انطلاق شرارة الثورة السورية عام 2011، اعتبرها "مؤامرة خارجية"، أما الجرائم الوحشية والمجازر التي يرتكبها النظام السوري ضد أبناء شعبه فلا تعدو أن تكون "تضخيماً للأمور عمداً، وتزويراً للحقائق أحياناً".
لا يتوّرع جورج قرداحي عن تزوير حقائق دامغة هي حصيلة أكثر من عشر سنوات من عدوان يشنّه نظام الأسد على شعبه، مسنوداً بروسيا وإيران ومليشياتها
هذا الرجل، الذي يُقَدَّمُ بوصفه "إعلامياً قديراً"، لا يجد غضاضة، ولا يرفّ له جفن، وهو يكذب جهاراً نهاراً، ويسعى إلى تزوير حقائق دامغة هي حصيلة أكثر من عشر سنوات من عدوان يشنّه نظام الأسد على شعبه، مسنوداً بروسيا وإيران ومليشياتها، وفي مقدمتها حزب الله اللبناني، والذي للمفارقة، يصف قرداحي أمينه العام، حسن نصر الله، عام 2018، بأنه شخصية العام في لبنان "بلا منازع". بالنسبة لقرداحي فإن ما بين 400 ألف ومليون قتيل سوري، وملايين الجرحى والمصابين، وثلاثة عشر مليوناً لا يجدون طعاماً يسد رمقهم كل يوم، وستة ملايين مهجّر خارج بلادهم، ومثلهم نازحون داخلها، ومائة ألف معتقل حالي، ومثلهم قتلوا في أقبية تعذيب النظام، وأكثر من مائتي ألف مجهولي المصير.. كلها أراجيف "تضخم الأمور عمداً، وتزور الحقائق"! أو، لعله يرى في ذلك ثمناً مقبولاً لإفشال "المؤامرة الخارجية" على النظام، في سبيل إلحاق الهزيمة بـ"الحرب الكونية ضده".
ثالثة الأثافي، أن تجد بين بعض الفلسطينيين، أو من يَدَّعونَ دعم ثورتهم، من يوافق قرداحي ويتنطّح للدفاع عنه وعن الأسد وعن حزب الله وإيران وروسيا، زاعمين أن هذا محور للمقاومة يتصدّى "للمؤامرات الإمبريالية" والصهيونية على الأرض السورية. هؤلاء، أيضاً، يسقطون في فخٍّ خطير مناطه تمييز حرمة الدم الفلسطيني عن غيره من الدماء المعصومة والأرواح البريئة، وهذا سيكون أثره كارثياً على القضية الفلسطينية ومركزيتها، عربياً وإسلامياً وإنسانياً. ولا أريد أن أتوسع هنا في حقيقة الموقف الروسي المتواطئ مع إسرائيل في تمكين هذه الأخيرة من قصف القوات الإيرانية، والمليشيات التابعة لها على الأرض السورية، وقد سكتت أبواق هؤلاء عن المعلومات التي راجت بشكل واسع خلال زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي، نفتالي بينت، روسيا، الشهر الماضي (أكتوبر/ تشرين الأول)، واتفاقه مع الرئيس فلاديمير بوتين، على السماح للدولة العبرية باستمرار هجماتها تلك، بما يشمل مواقع النظام السوري العسكرية نفسها.
السعودية تتخبّط في اليمن ولا تعرف كيف تحسم الصراع مع الحوثيين
في المقابل، وبغضّ النظر عن حقيقة الدوافع السعودية من افتعال أزمة دبلوماسية مع لبنان، متذرّعة بتصريحات قرداحي التي كان أطلقها قبل تعيينه وزيراً في الحكومة، فإنه لا يمكن لأيٍّ كان يزعم الموضوعية والإنسانية أن يغض الطرف عمَّا تمارسه هي والإمارات من جرائم حرب في اليمن منذ عام 2015. في تقريره السنوي الصادر في ديسمبر/ كانون الأول العام الماضي، وصف صندوق الأمم المتحدة للسكان الوضع في اليمن بأنه "أسوأ كارثة إنسانية على مستوى العالم، والمأساة تتعمق أكثر فأكثر مع استمرار الصراع".
كانت كل من الرياض وأبوظبي أعلنتا مطلع عام 2015، ضمن ما يعرف بـ"التحالف العربي"، الحرب على الحوثيين، وهم أحد أدوات إيران في المنطقة، بعد احتلالهم صنعاء وإطاحة "الحكومة الشرعية". ولكن الصراع منذ ذلك الحين يراوح مكانه، إذ يقيم الرئيس اليمني "الشرعي"، عبد ربه منصور هادي، أقرب إلى الرهينة في الرياض، في حين تقوّض الإمارات حكومته وقواتها في العاصمة الجنوبية، عدن، عبر مليشيات انفصالية تدعمها. ليس هذا فحسب، بل تسعى أبوظبي إلى تعزيز سيطرتها على الموانئ اليمنية في الساحل الغربي المقابل للقرن الأفريقي، وبالتالي السيطرة على مضيق باب المندب الاستراتيجي الذي يربط بين البحر الأحمر وبحر العرب. وكان المجلس الانتقالي الجنوبي، المدعوم إماراتياً، سيطر على جزيرة سقطرى الاستراتيجية، العام الماضي، بعد مواجهاتٍ مع القوات الحكومية التي تدعمها الرياض.
قرداحي ومن شايعه مصابون بإنسانية منعدمة، عندما يتعلق الأمر بسورية، ومن يؤيدون العدوان على الشعب اليمني لا يقلون سوءاً
بالنتيجة، السعودية تتخبّط في اليمن ولا تعرف كيف تحسم الصراع مع الحوثيين، فالقوات الحكومية التي هي في الأصل تابعة لها تواجه تمرّداً مدعوماً من الإمارات، وهي عاجزةٌ عن وقف تلك التعدّيات والانتهاكات. كما أنها لم تستطع إيجاد قوى يمنية قادرة على التصدّي للحوثيين، خصوصاً مع تنامي حساسيتها من حزب التجمع اليمني للإصلاح، بتحريض إماراتي، بسبب خلفيته الإسلامية. وهكذا، تطاولت الحرب في اليمن، وهي تدخل عامها السابع الآن، دفع خلالها الشعب اليمني المغلوب على أمره ثمناً فادحاً جرّاء تكالب إيران ووكيلها الحوثي، والسعودية والإمارات والمليشيات التابعة لهما عليه. وحسب الأمم المتحدة ومنظماتها، فقد قتل خلال السنوات الستة الماضية أكثر من 233 ألف يمني، ويحتاج أكثر من 80% من سكان اليمن الذين يبلغون ثلاثين مليوناً إلى مساعدات إنسانية عاجلة، خصوصاً في ظل الحصار الخانق الذي تفرضه السعودية على موانئ البلاد، ويموت طفل كل عشر دقائق بسبب مرضٍ يمكن الوقاية منه، وهناك مليونان منهم خارج المدرسة، بالإضافة إلى مليونين آخرين يعانون من سوء تغذية حاد، وأكثر من 3.6 ملايين شخص مشرّد. دع عنك الأمراض المنقرضة التي عادت لتفتك باليمنيين، كالكوليرا.
باختصار، كما أن قرداحي ومن شايعه مصابون بعمى ألوان وإنسانية منعدمة، عندما يتعلق الأمر بسورية، فإن من يؤيدون العدوان على الشعب اليمني لا يقلون سوءاً عنهم. في السياق اليمني، ليست السعودية والإمارات وحدهما المعتديتين، بل إيران أيضاً ووكيلها الحوثي، ولكن لا تتوقع من اعتذاريي إيران أن يقرّوا بذلك. أما نحن الشعوب العربية، فلا ينبغي أن نتلطّخ بجريمة التفرقة بين حرمة دماء الأبرياء، كائناً من كانوا، وكائناً من كان المجرم.