لا تشاهدوا هذا الفيلم

07 يناير 2022
+ الخط -

بالمصادفة، تلتقط كيت ديبياسكي مذنّباً، على جهاز مراقبة النّجوم، معتقدة أنّه يتوجّه إلى الشمس. بعد تلقي التّهاني، والاحتفال مع زملائها بالاكتشاف الكبير الذي أخذ اسمها، يَحسِب أستاذها راندال ميندي المسافة بين المذنّب والأرض، ويُدرك أنّه يتّجه إلى الأرض بسرعة كبيرة، فتُحاول كيت، برفقة راندال، تحذير الجميع، لكن لا أحد يصدّق، بل صارا محطَّ سخرية واستهزاء، لأنّهما حملا خبر نهاية العالم بعد ستّة أشهر، وهو ما لا يتصوّره أحد.

حاول فيلم Don’t look up (لا تنظر إلى الأعلى) قول كلّ شيء، ونقد جلّ سيّئات العصر. وكأنّ هذا لا يكفي، فتمّ حشد أكبر قدرٍ من النّجوم المُمكنِ دسّهم في فيلم واحد. النتيجة "خلطبية بالصّلصة"؛ "شوية" غمز لليبرالية، وللشركات العابرة للقارات، وكمية وافية من النّقد لـ "السوشيال ميديا" والتّسطيح الإعلامي، واهتمام الناس بالتّفاهات فيهما معا. والقيم المادية، وهوس السّلطة ومحاباة الأقارب والفساد السياسي. والعنجهية الأميركية في التحكم بالعالم إلى درجة قيادته إلى الهلاك .. وغيره.

لعل الكتابة خرّبت الأدوار، وقدّمت سيناريو أطول مما يجب، تاركاً فراغاتٍ كثيرة، وانتقالات مفاجئة بين الزّمان والمكان، وتحوّل الشخصيات السّريع من دون إظهار لحظة التّغيير القوي، ولم يعتمد الفيلم على الاستعارة، على الرغم مما قال المخرج إنه استوحاه من التهديدات المناخية، بعد فشل قمة المناخ. لم نشعر بمسؤولية الإنسان عن الكارثة الوشيكة سوى بعدم مبالاته التي لا يمكن أن تُعوّض ما يفعله بالطبيعة والكوكب، وهو أبعد ما يكون عن دور الضّحية. كما كان الحوار غير مبدع، بل بدا أنّه غير مهم في نظر صناع الفيلم، ولم يَمنَحنا تلك الكثافة التي تنتج عن تناول موضوعات عميقة ونقدية.

وجود شخص واحد جشع إلى درجة أن يحاول السيطرة على العالم لم يعد جزءاً من حكايات "القبطان نيمو" أو "الفأر برين" الذي يحاول السّيطرة على العالم كل يوم

قارن كثيرون هذا الفيلم مع "الجوكر"، في نقدهما الرّأسمالية وسيطرة القيم المادية وجشع السلطة، وتفاهة الأجيال الجديدة التي غسلت أدمغتها الثقافة السّطحية. هذه النقطة بالذات كانت غير موفقة في "Don’t look up"، لأنّها حملت نظرة سطحية إلى هذه الأجيال التي لا يمكن حصرها في فئة واحدة، وينظر إليها المخرج بتعال كأنّه قادم من جيل عميق، وليس جيل الموسيقى العنيفة والتسريحات الغريبة والعدميّة المطلقة، والسّعي المجنون خلف الحلم الأميركي والاستعلاء على بقية العالم. الأكثر من ذلك، أن "الجوكر" حمله ممثل واحد فقط تفانى في دوره إلى درجة مرعبة. عدا عن الحوار الذي كان مُدهشا ومثّل عنصراً أساسياً رافق أداء الممثّلين، بحيث يمكن اقتباس عدد كبير من جمل الفيلم مقولات معبّرة.

سيطرة الشركات الكبرى في العالم ليس مصادفةً أنها شركة تقنيات وتكنولوجيا، تحيل إلى الكائنات الضخمة التي تسيطر على تكنولوجيا العالم، غوغل، ألفابت، أمازون، ميتا، تِسلا، تيسنت .. مع طموح هذه الشركات في التوسّع، قد نرى اندماجاتٍ مع شركات أخرى أو فيما بينها لتسيطر أكثر على مجالات متعدّدة، منها شركات الأدوية، مع ما حققته الأخيرة من أرباح في زمن كورونا، ما يمكن تسميته اقتصاد الكوارث. ولعل الشّخصية التي أدّاها مارك رايلانس مثال لذلك، حين رأى في الكارثة التي تهدّد العالم أرباحاً هائلة، حتى أنه قرّر حرمان الصين والهند وروسيا من كنوز المذنّب، لأنهم فكروا في تدميره مبكّراً، مع التحكّم الكامل في القرار السّياسي، حيث كانت رئاسة الدّولة دمية تتلقى الأوامر منها.

لا تشاهدوا "لا تنظر إلى الأعلى" أو شاهدوه. لكن لا تتوقّعوا لمسة عميقة لجوهر الإنسان المعاصر

كان مارك رايلانس متمكّناً من شخصيته، شخصا مهووسا بالسّيطرة ولا حدود لطموحه في مزيد من المال والنّفوذ عبر اختراعات شركته التي لا تتوقّف عن تقديم حلول للإنسانية، لكنها تبقى حلولاً مفخّخة. عبر هذه الشخصية، حاول المخرج تقديم نموذج إيلون ماسك، في نسخةٍ أكثر جشعا. ولعل وجود شخص واحد جشع إلى درجة أن يحاول السيطرة على العالم لم يعد جزءاً من حكايات "القبطان نيمو" أو "الفأر برين" الذي يحاول السّيطرة على العالم كل يوم.

ليست واحدية أميركا وسيطرتها على العالم في الأفلام الأميركية استثناء هنا، فالمكتشفان والمقرّر السياسي، والشّركة المُهيمِنة على القرار، كلّهم أميركيون. فكرة تدمير الأميركيين مركبة صينية هندية روسية تبقى سخيفة؛ هل تعجز دول مثل هذه حقاً عن حل أزمة عالمية كهذه؟ ما كان طريفا انشغال الشخصيات بالأمور الصغيرة وسط مواقف خطيرة، لأنهم وُضعوا على الرفّ، ولم يكن بأيديهم شيء لفعله، فنرى كايت تنشغل بعقيد باعها وجبات خفيفة في البيت الأبيض، كان قد حصل عليها بالمجان. لأنهم أغلقوا عليها داخل غرفة في انتظار البتّ في موضوع الخطر الذي يهدد العالم بالانهيار. كانت إشارة ذكية إلى واقع شعوبنا التي تنشغل بالسخرية والتوافه من الأمور، لأن الغرف مقفلة عليها في انتظار ما لن يأتي.

لا تشاهدوا الفيلم أو شاهدوه. لكن لا تتوقّعوا لمسة عميقة لجوهر الإنسان المعاصر. بدل ذلك، أقترح إعادة مشاهدة "الجوكر" لبداية عام مجهول المصير، مع أمل كبير في نهاية الكابوس العالمي الذي لبث طويلاً في خاصرتنا.

596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
عائشة بلحاج

كاتبة وصحافية وشاعرة مغربية

عائشة بلحاج