لأنّنا بشرٌ وحسب
تأسرني مواقف اللطف العفوية بين الناس، أن يشعر أحدُنا بآخر لا نعرف عنه سوى أنه إنسان وحسب. أو نواسيه ما استطعنا إلى ذلك سبيلا، عندما يكون في حاجة لهذا اللطف وهذه المواساة.
تأسرني فكرة أن نتفكّر دائماً في معنى الخلق وأسبابه ومآلاته، وأن نحاول تفكيك ما اشتبك في المعنى وحوله، وأن نُبقى جذوة البحث مشتعلةً في القلوب وفي النفوس، حتى لا تخمدها الأحكام الموروثة ولا التقاليد المنصوص عليها هنا وهناك.
نحن بحاجة فعلاً لأن نعي ما نشترك معه فيه، وإن لم نعرفه ولم يعرفنا، ما دمنا نعيش في كوكبٍ واحد. نتنفس الهواء نفسه، وتوحدنا لحظات الوباء وجوائح الكون، قبل أن نكتشف الوقاية والعلاج.
يأسرني أن يمارس الإنسان إنسانيته في يومياته مهما بلغ به العمر، ومن دون أن يشعر أنه يؤدّي واجباً. أتتبع تلك المواقف التي أرصدها في كلمات أو مقالات أو مقاطع فيديو أو مشاهدات حقيقية وواقعية، بإعجابٍ وامتنان. أشعر أنّ الإنسان إنما خلق لهذا، لأن يكون جزءاً من هذا الكون الواسع الذي لا يمكن أن يستمرّ في ناموسه من دون الوجود الإنساني المتفاعل مع بعضه بعضا والمتشابك مع كلّ موجودات هذا الكون.
لا يتناقض هذا التشابك الواقعي والافتراضي مع رغبة البشر العارمة أحياناً في العزلة، بل لعلّها تعزّزها نقطة فاصلة بين المواقف التي نتشابك فيها مع الآخرين حولنا، أو محطة استراحة من جهاد مستمر في سبيل تحسين جودة العلاقات التي تجمعنا مع كلّ شيء حولنا. خلقنا لأن نعبد الله ونعمّر أرضه، ولن يتم هذا إلّا بمزيد من الاحتضان الافتراضي المتبادل بيننا جميعا، بغض النظر عن معطيات الواقع الذي نعيش فيه، فلا يمكن أن تخضع مثل هذه الضرورة الوجودية لاعتبارات الثقافة أو اللغة أو الدين أو النوع أو العمر أو التعليم أو المستوى الاقتصادي والاجتماعي... أو أي شيء آخر مما ابتكره بعض البشر في أوقات فراغهم، لا لملء هذا الفراغ وحسب، لكن أيضاً محاولة لفهم ما يحدث في تلك العلاقات المعقدة بين البشر على مرّ الأزمان وباختلاف الجغرافيات.
نحن بحاجة دائماً بعضنا إلى بعض، بحاجة لأن نعي ذلك ونتأكّد منه، وأن نبتكر فرصاً جديدة لإعادة اكتشافه وتدريب الصغار عليه، وأن نكون على قدر كلّ اختبار تتمحور أسئلته حول هذا المعنى المبدئي والبدائي العميق. لأنّنا لن ننجح في تعمير هذا الكوكب، ولا في استمرار الحياة فيه ولن ننجح في أيّ اختبار، باستثناء اختبارات الموت والدمار، ما لم نقتنع بتلك الحقيقة الغائبة التي تعزّز من بشريتنا، وتؤنسن ما توحش منا منذ بدء الخلق على هامش ما سال من دماء، وما اشتعل من حريق، وما ملأ الجو من رائحة الموت.
في النهاية، سنمضي واحداً تلو الآخر إلى أقدارنا خارج هذا الكوكب، وربما ستتاح لنا فرصة لأن نرى ما خلفناه وراءنا من عمار ومن دمار. وسنكون عندها قادرين على رؤية المشهد البانورامي كاملاً في الطول وفي العرض وفي العمق. ستتوجه أبصارنا إلى سماء جديدة حتماً، لنندم على ما فرّطنا به من فرص أتيحت لنا فقط لأن نكون فيها مجرد بشر، فآثرنا أن نكون كلّ شيء ما عدا البشر!
يأسرني التفكير بكلّ ما يمكن أن يكون مصيراً مشتركاً لنا، وأن يكون على ما نشتهي كنهاية لرحلة اللطف الحقيقي... رغم أنّه نادر جداً لسوء الحظ وسوء البشر.