كيف مرّت سنة على هذه المقتلة؟
هكذا مرّت سنة، هكذا همستُ لنفسي وأنا أقف في الشرفة البعيدة عن كل شيء، لا أشعر أنها شرفة، بل أشعر أنها سجنٌ بقضبان محكمة يُطبق فوق صدري، وتضيق به أنفاسي، وأنا التي لطالما حلمتُ بأن أمتلك شرفة تطلّ على منظر بديع، وأن يكون على أرضيّتها كرسي هزّاز، وهكذا تحقق نصف الحلم، هناك شرفة، وهناك كرسيٌّ هزّاز قديم متآكل الأطراف في زاوية منها، ولكنه ليس لي، ولم أفكّر لو لوهلة أن أجلس عليه. أنظر إليه وأتنهد، ويسرح بصري إلى هناك، وأنظر إلى التاريخ المسجّل فوق شاشة هاتفي، وأعيد الحسابات والعدّ، وأهمس لنفسي: لقد مرّت سنة...
لم أتخيّل لو لحظة، أو أقلّ، أن يحدُث هذا كله في سنة، كيف صرت بعيدة عن مكان أحببته، كيف تركت كل شيء عزيز من أماكن وأشخاص وأصبحت في كل هذا البعد، وها أنا أكتشف وبعد أن أستنشق نفساً طويلاً أن لا شيء يمكن أن يسير كما خطّطت، مهما كان هذا الشيء بسيطاً بالنسبة لك، ومهما كان تافهاً بالنسبة للآخرين، فدائماً ما كنت أردّد لمن حولي: لا أريد أن أموت بعيداً عن مدينتي حيث دفن والداي، ولا أريد أن أترك بيتي وغرفتي وسريري، تلك الغرفة التي لامني الجميع أنني لم أحاول أن أحرّك قطعة أثاث واحدة من مكانها فيها منذ أكثر من 30 عاماً، ولكنهم لا يعرفون معنى أن ترتبط بالأشياء حتى تصبح جزءاً من روحك، وجزءاً من حياتك اليومية، وبأن تحريك قطعة أثاث يعني أن تفقد جزءاً من ذاتك، وتشعر بالتيه والضياع، وبأن جزءاً منك قد جرى اقتصاصه، ولكنك اليوم تائه وضائع ومقصوص الأجزاء، مبتور القلب والروح، ولا شيء فيك يشبه الآخر، ولا شيء فيك يعرف الآخر.
أصبحت اليوم في غربةٍ توقفك كل صباح في الشرفة العتيقة، وتبكي وترسل رسائل من القلب إلى البلد البعيد، ثم تركل بطرف خفّك المنزلي ذلك الكرسي الهزّاز، وتدلف إلى الداخل معلناً بداخلك التمرّد على كل ما أنت فيه، فاقداً الرغبة في الجلوس فوق الكرسي الذي كان بالنسبة لك أقصى أمانيك، ولكنه كان سيطير بك نحو أيام طفولتك، ونحو حواري مخيّمك، وباتجاه شوارع المدينة العتيقة، وسور المقبرة التي استقرّ بها جدّاك الحبيبان الفقيران، واللذان تربّيت عقداً في بيتهما، وذقت حلاوة عيش تنافس كل حلاوة في البيوت، وفوق الموائد الفاخرة، وحلمت أن يطير بك الكرسي الهزّاز نحو السوق الذي لا تتوقف فيه عن رد السلام على الأحبة من أصحاب ورفاق أبيك الراحل، وكل واحد منهم يدعوك، بكل صدر رحب، أن تجلس لتستريح أمام باب دكّانه لتحتسي كوباً من الشاي، أو تشرب كأساً من عصير الكركديه أو العرقسوس المثلج.
هكذا مرّت سنة، وأصبحتُ بعيدة عن أشياء بسيطة تافهة للآخرين، أشياء لا تعني شيئاً للساسة والقادة، ولو صرخت وسط هذا العالم بأعلى صوتي قائلة: كفّوا عن هذا الجنون، أوقفوا هذه المقتلة. لن يسمعني أحد، ولن يشعر بي أحد، ولن يقدّروا أنني أبسط مما تخيّلوا، وأن أحلامي لم تكن تتجاوز بيتاً صغيراً، وسريراً مريحاً، وشرفة ضيّقة، ولكنها تطل على معالم بلد حبيب، رسم كل شبر فيه في حنايا الروح والقلب.
هكذا أجد نفسي في الغربة، إنسانة صامتة، لا تفعل شيئاً سوى أن تتابع بكل ألم أخبار هذه المقتلة المجنونة، والتي لا يهتم أحد بإيقافها من أجل الإنسان، الإنسان القابع في خيمة، والذي يشبهني. الغريب أننا في غزّة نشبه بعضنا بعضاً، فكلنا نملك أحلاماً بسيطة ليس من بينها امتلاك القصور ولا أرصدة البنوك، ولكن حتى هذه الأحلام استكثروها علينا، وقلبوا حياتنا مثل طفلٍ مشاكسٍ يخافه كل أطفال الحارة، ويرفضون مشاركته لعبهم، فيرسمون على الرمال خطوطاً للعبة شعبية على شكل مربع، ويأتون بحجر صغير، ويبدأون بالتقافز من مربع إلى آخر، بحيث لا يتوقف الحجر فوق أحد الخطوط، فيأتي الطفل المشاكس الذي لا يطيق سعادة هؤلاء الصغار المتحابّين فيطمس الخطوط بطرف حذائه بكل غلٍّ وقسوة، وينظر نحوهم مكشّراً عن ضحكة شرّيرة، وتنتفخ أوداجه سعادة وطرباً لأنه أفسد عليهم لذتهم الصغيرة.
هكذا أفسدوا علينا كل شيء، أصبحنا نشبه بعضنا بعضاً في ضياعنا وفي بؤسنا وفي تشتّتنا وبعدنا عن كل من أحببْنا، وعن كل ما أحببْنا، هكذا بكل جنون وغطرسة، تحوّلت حياتنا إلى خيمة وغربة. ولا فارق بين الخيمة والغربة فكلاهما يعنيان الضياع والفقد، وانتزاع الروح ببطء. تخيّلوا كيف مرّت سنة وما زالت روحك تنتزع من صدرك، وما زلتَ لا تعرف هل أنت حي تُرزق، أم أنه قد مرّت سنة على موتك؟