كيف غيّرت حرب غزّة المشهد الإسرائيلي

29 أكتوبر 2023
+ الخط -

إسرائيل ما قبل هجوم 7 أكتوبر (2023) غيرُها من بعده. عبارة يمكن أن تكون كليشيها مستهلكا، لكنها تعبّر بعمق عن حقيقة المشهد الإسرائيلي على المستويات، الشعبي والرسمي والعسكري. بين ليلة وضحاها، وجد الإسرائيليون أنفسهم في حربٍ لم يتوقّعها أحد. المستوطنون اليهود من سكان غلاف غزّة الذين كانوا يعيشون في عالمٍ منقطعٍ تماماً عما يجري على بعد كيلومترات قليلة منهم، حيث يعيش أكثر من مليوني فلسطيني حالة حصار وقهر وظلم منذ 2007، وجدوا أنفسهم في داخل دائرة النار والأسر والدمار، وخلال ساعات قليلة انهارت كل مظاهر الحياة التي عرفوها ليجدوا أنفسهم أمام الحقيقة العارية: دولتهم أخفقت في الدفاع عنهم، وجيشهم لم يقم بحمايتهم، بيوتهم دُمّرت وعدد منهم قتلوا أو جُرحوا أو باتوا في الأسر في قطاع غزّة. والمسؤول الأول والأخير في نظر هؤلاء ليس فقط "الوحوش البشرية"، التسمية التي يطلقها المسؤولون والإعلام على مقاتلي "حماس" ، بل أيضاَ، وبقدر كبير، المسؤولون السياسيون والأمنيون الذين خدعوهم سنوات بالأمن الوهمي، ومارسوا سياسات واستراتيجيات سقطت اليوم سقوطاً مرعباَ.

تستغلّ الدعاية الرسمية مشاعر الغضب والإحباط والخوف التي تسود الجمهور الإسرائيلي عموماً، وسكان غلاف غزّة خصوصاً، من أجل تأجيج مشاعر الانتقام والروح العنصرية والكراهية ونزع الصفة الإنسانية عن الفلسطينيين، مقاتلين كانوا أم مدنيين. ما يُكتب وما يُسمع في هذه الآونة في الصحف الإسرائيلية وفي الاستديوهات من كلام مُقذع ومشين عن المدنيين الفلسطينيين أمرٌ يندى له الجبين.

ويوحي المسؤولون الإسرائيليون لجمهورهم أنهم يدركون فعلاً ما يفعلونه، وأن المعركة البرّية التي يتحضر الجيش الإسرائيلي لشنّها ضد قطاع غزّة بين ساعة وأخرى ستقضي على "الشر" وتقتلع "حماس"، قيادة وبنية عسكرية وأجهزة حكومية، وستغيّر القطاع جذرياً. وأن الفلسطينيين يُغالون في تصوير خسائرهم البشرية، وأن ما يجري من قتل في غزّة "حقّ إسرائيل بالدفاع عن نفسها".

الأيام المقبلة ستكون مصيرية بالنسبة إلى الجمهور الإسرائيلي الذي وضع مصيره في يد قيادة سياسية وعسكرية لم يعد يثق بها

المسؤولون الإسرائيليون، سياسيون أو عسكريون، يقولون لجمهورهم إن المعركة ستستغرق وقتاً طويلاً، وستكون محفوفة بالمخاطر والخسائر. لا أحد منهم يعترف، بصراحة، بأن الهدف الذي وضعوه لحربهم صعب التحقيق في المدى المنظور، رغم عدم التكافؤ في القوة، وأن هدف "اقتلاع حماس" يبدو مستحيلاً، و"تطهير" غزّة من السلاح ومن المقاتلين مهمة مجنونة. يقدّمون لهم الوعود بأن إسرائيل ستستعيد قدرتها على الردع، وستحقق نصراً ساحقاً، وهم بذلك يزيدون من توقّعات جمهورهم الذي يصدّقهم، وينتظر هذا النصر بترقّب، في وقتٍ يترقب أيضاَ عودة أسراه. ومع تعقّد الوضع على الجبهة العسكرية وازدياد الخسائر البشرية والمادية الإسرائيلية من دون تحقيق النصر الموعود، سيدرك الجمهور الإسرائيلي أن قادته خدعوهم مرة أخرى. وهكذا تحوّلت حرب غزّة إلى أهم اختبار لعلاقة الجمهور الإسرائيلي بصيغته وتركيبته الحالية بزعاماته السياسية، وربما أكبر اختبار لثقة الإسرائيليين بجيشهم.

أكبر تغيير أحدثته حرب غزّة في المشهد الإسرائيلي هو تداعياتها على وضع رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو نفسه، الذي استطاع أن يهزم خصومه في خمس معارك انتخابية متتالية خلال أربع سنوات، ولم تنجح أشهر من الاحتجاجات الداخلية ضد الإصلاحات القضائية التي بادرت إليها حكومته في زعزعة مكانته السياسية داخلياً، ونجا من كل التّهم الموجّهة إليه بالرشى والاحتيال وسوء استخدام النفوذ، والذي أراد أن يتوّج ولايته الحالية بإنجازات سياسية تاريخية، مثل التطبيع مع السعودية، وإذا بعملية طوفان الأقصى تطيح كل شيء، وتضعه في دائرة المسؤول الأول عن الفشل والتقصير، وتطالب بمساءلته والتحقيق معه. يخوض نتنياهو اليوم معركة مصيرية ستحدّد مستقبل كيان إسرائيل دولة ملاذ للشعب اليهودي، كما ستحسم مصيره السياسي.

يبرز الغضب على نتنياهو في كيفية تعامله مع قضية الأسرى الإسرائيليين لدى "حماس"، سيما بعد تصريحات وزراء اليمين المتطرّف إن مصير الأسرى يمكن أن ينتظر، والنقمة المتزايدة على المسؤول عن الملفّ، غال هيرش، لسوء أدائه.

مع تعقّد الوضع على الجبهة العسكرية وازدياد الخسائر البشرية والمادية الإسرائيلية من دون تحقيق النصر الموعود، سيدرك الجمهور الإسرائيلي أن قادته خدعوهم مرة أخرى

قال نتنياهو للإسرائيليين أن هدف الحرب استعادة الأسرى والقضاء على "حماس" في وقت واحد، من دون أن يطغى أحد الهدفين على الآخر. من يتأمل في المضمون الفعلي للكلام يرى الكذب والتحايل والتلاعب بمشاعر أهالي الأسرى والإسرائيليين كلهم، لأن إطلاق الأسرى يتطلب في الحد الأدنى وقفاً موقتاً لإطلاق النار في غزّة، فكيف يستقيم هذا الهدف مع عملية توغل برّي في القطاع سيكون دموياً ومدمراً سيدفع ثمنه الجميع.

حرب غزة لم تقوّض فقط النظريات الاستراتيجية التي قامت عليها سياسة نتنياهو، والتي ترتكز إلى مبدأ إدامة الانقسام الفلسطيني بين حركتي فتح وحماس وإضعاف السلطة واحتواء حماس، بل أدت أيضاَ إلى زعزعة زعامة نتنياهو وتقويضها في أنظار الجمهور الإسرائيلي الذي تكشف استطلاعات الرأي أن الأكثرية لم تعد تراه مناسباً لرئاسة الحكومة.

ستكون الأيام المقبلة مصيرية في حياة الغزّيين في القطاع الذين بحاجة اليوم إلى مقومات الصمود لمواجهة أعتى عدوان شهده النزاع الإسرائيلي الفلسطيني. لكن الأيام المقبلة ستكون مصيرية أيضاً بالنسبة إلى الجمهور الإسرائيلي الذي وضع مصيره في يد قيادة سياسية وعسكرية لم يعد يثق بها.

رندة حيدر
رندة حيدر
رندة حيدر
كاتبة وصحافية لبنانية متخصصة في الشؤون الإسرائيلية
رندة حيدر