كيفما تكونوا يُولَّ عليكُم
بدأ اعضاء حكومة نجلاء بودن في تونس يتساقطون كأوراق الخريف واحدا تلو الآخر. جديدهم أخيرا وزير الخارجية، عثمان الجرندي، يتم ذلك في الغالب بطريقةٍ اعتبرها كثيرون مهينة، رغم أن أداءهم كان في العموم ضعيفا جدا. عُيّنوا مصادفةً وغادروا مكاتبهم الوزارية فجأة وبدون إنذار. كثيرون منهم أصبحوا وزراء ثم اختفوا بعد فترة من دون أن يسمع بهم التونسيون أو يعرفوا لهم مركزا أو يحسّوا بهم، وكأنهم أشباح تتنقل في ليل دامس. دخلوا المشهد من دون مقدّمات وغادروه من دون أن يتركوا وراءهم بصمة أو أثرا يدلّ عليهم ويذكّر الناس بهم. حتى الذين جرى عزلهم لا يعرفون الأسباب المباشرة التي أدّت بهم إلى باب الخروج، رغم حرصهم الشديد على إظهار الولاء والطاعة، وتجنّب الشبهات، ما ظهر منها وما بطن. وبما أن رئاسة الجمهورية لا تُشغل نفسها بشرح الأسباب وتوضيح الخلفيات، وهو ما يحوّل قرار العزل إلى جزءٍ من الإشاعات التي تكاد تصبح من ثوابت الحياة التونسية.
يطالب بعضهم، مثل الأمين العام لحركة الشعب، زهير المغزاوي، الرئيس قيس سعيّد بالإسراع في إنهاء حالة الاستثناء، وتشكيل حكومة سياسية. يتحدّث عن ذلك بكل جدّية، وكأن الأوضاع القائمة عادية مستقرّة، وأن الخطوات التي قطعت خلال الاشهر الماضية كانت تعتبر منطقيةً، وتصبّ في المسار الصحيح، وأن لحظة تتويج القرارات الكبرى قد حلت، وهو ما يقتضي القطع مع حكومة إداريين تسير على غير هدى، بدون رؤيةٍ ولا برنامح ولا خبرات حقيقية.
القفز على الواقع من دون تبصر لن يساعد على البناء السياسي الحقيقي، بل هو قفزٌ في الهواء وتزوير للمشهد وقلب للاولويات، فالبناء على ما تقدّم هو استمرار في النهج نفسه، وإصرار على التوغل في الطريق الانحداري، فالحكومة السياسية تتشكّل من سياسيين، تديرها شخصيةٌ تتمتع بقدرٍ أدنى من الإيمان بذاتها، وبقدر واسعٍ من الاستقلالية. وهذه مواصفاتٌ لا يزال سعيّد مصرّا على رفضها جملة وتفصيلا، فشخصية من هذا القبيل لن تكون طيّعة، ولن تسلم أمرها إليه كما هي الحالة مع السيدة بودن، وإنما ستكون شريكة في السلطة في القرار.
لكل حزب سياسته الخاصة به وفق مصالحه وحساباته، لكن الخطأ في المراهنة على الأوهام إلى درجة الاعتقاد في صحتها، فالحكومة السياسية غير واردة في السياق الحالي. وحالة الاستثناء القائمة، والتي ألغي بموجبها الدستور والبرلمان، وجرى في الأثناء تقليص الحريات، قد تكون الحالة الدائمة. ولن تشهد المرحلة المقبلة تغييرات جوهرية في أسلوب الرئيس، حيث سيواصل ترميم حكومة بودن التي يرى في شخصها المرأة المناسبة، رغم انتقادات الجميع. كما أنه يستعدّ لمواجهة القيادة المشاكسة، من خلال اتخاذ إجراءات متعدّدة ومتفرّقة، قد يكون منها تعيين وجه نقابي ثان في منصب وزاري اقتصادي، فهو يلعب على التناقض بين النقابيين وتعليق الفرقة بينهم من أجل إضعاف الاتحاد وشلّ قدرة المركزية النقابية، وبذلك يسهل عليه السيطرة كليا على مراكز القوة في المجتمع المدني.
فقد الوزير قيمته ووزنه في تونس بشكل ملحوظ. لا يتعلق الأمر فقط بقدرات هذا الوزير أو ذاك، وبتجاربه وحظوته لدى الناس، وولائهم لشخصه بقطع النظر عن منصبه، إنما أيضا من حيث تقدير رئيس الدولة له، ومدى جدارته في تحمّل المسؤولية، ما يعود إلى عدة عوامل، من أهمها الرغبة الشديدة والمرضية في الحصول على الوزارة، أي وزارة، مهما يكن الثمن، وهو ما من شأنه أن يحوّل هذا الوزير إلى آلة يحرّكها صاحب النعمة عليه، وعندما ينتهي دور هذا الوزير يتم الاستغناء عنه في لحظة، كأنه لم يكن شيئا مذكورا. .. لهذا صدق من قال: كيفما تكونوا يُولَّ عليكم.