كونديرا وقرنح وإسرائيل والمترجم العربي
العنوان أعلاه لهذه المقالة سيئ، ليس فقط لأنه طويلٌ بعض الشيء، بل أيضا لاجتماع ثلاثٍ من واو العطف متتابعةٍ فيه، وهذان عيبان يُستحسن، مهنيّا وتحريريّا في الصحافة، تفاديهما. ولكنّ الأسوأ أن المقالة نفسَها، في السطور التالية، لا تُجيب عن أسئلةٍ تطرحها، وهذا غير حسنٍ في مقالةٍ سيّارة. أما الأكثر سوءا من هذا وذاك أنه ليس لدى صاحب هذه الكلمات إجابات على ما يَسأل.
...، لمّا أُعلِن في أكتوبر/ تشرين الأول 2021 فوز البريطاني الجنسية، عبد الرزاق قرنح، بجائزة نوبل للآداب، بدوْنا، نحن القرّاء العرب، ومنّا مختصّون ودارسو أدب، كأننا دوهمنا بهذا الاسم العربي. وكان سؤالُنا عمّن يكون هذا الرجل بمثابة أمر مُخجل، سيّما وأن أيا من رواياته العشر لم تُترجم إلى العربية، وهو الذي يكتُب بالإنكليزية (ليس بالأمهرية مثلا؟)، فيما هو من أصل يمني حضرمي، موطنُه الأول زنجبار، تنزاني. والأهم ما عرفناه أن معظم أعماله ينشغل باللاجئين المرتحلين بثقافاتهم إلى بيئات الغرب، وأكثر أبطالها مسلمون وعرب، كما أن ثيمات نصوصه تتعلّق بالعبودية والمنفى والهويات المركّبة. وهذا كله ضاعف من حرجٍ يُفترض أنه غشينا عند إعلان منحه الجائزة الأشهر، إذ لنا أن نزعم، ولو بشيءٍ من التزيّد، إن لنا، نحن العرب حصّة في هذا الكاتب. وإلى ذلك هو أستاذ في جامعات بريطانية وأكاديمي، تتركّز بحوثُه على الخطابات الكولونيالية (الاستعمارية)، وذلك يعني أن لنا صلة كبرى بمشاغله الثقافية. وتلك الأكاديمية السويدية في بيان منحه الجائزة جاءت على "اختراقه القوي والمتعاطف آثار الاستعمار ومحنة اللاجئين، بجرأةٍ وعُمقٍ غير مسبوقيْن". وهذا كله (وغيرُه) من المتوقّع أن يُصعّد حرجَنا من جهلنا الشاسع به، ومن عدم ترجمة أيٍّ من أعماله إلى العربية (تُرجم بعضُها بعد "نوبل"). وزيادةً، ينتصر صاحبُنا هذا لفلسطين التي زار ناسَها ومخيّما فيها في إطار نشاط ثقافي فلسطيني مقدّر. وفي شأن السويّة الفنية لرواياته، أجمعت مطالعاتٌ على علوّها، ووصفته أوساط غربية بأنه كاتب أفريقي استثنائي، ووصفت "الغارديان" روايةً له بأنها ساحرة، فيما لم يكن اسمُه ذائعا في سوق النشر في بريطانيا، ولم تُحرِز أعمالُه طبعاتٍ كثيرة.
أما التشيكي ميلان كونديرا، الذي توفّي الأسبوع الماضي عن 94 عاما في باريس التي أقام فيها منذ أربعة عقود، معارضا للنظام الشيوعي الذي كان في بلاده، فقد تُرجمت كل رواياته إلى العربية (أجازف وأقول بلا استثناء)، وكانت دور نشرٍ تسارع إلى إصدارها بالعربية بعد شهورٍ من صدورها بالفرنسية. ولتنوّع مشاغل أعماله، فكريا وفلسفيا وعاطفيا وسياسيا، وجاذبيّة أجوائها، ولفنيّاتها المتقدّمة، أحرز إعجابا كبيرا لدى جمهورٍ عربيٍّ عريض من قرّائه، وهو الذي لم يقترب أبدا من أي شأنٍ عربيٍّ، سياسي أو ثقافي، وربما لم يزُر أي بلد عربي (لستُ متأكّدا). وفيما كانت مغادرته بلدَه في 1975 (نشر أن النظام الشيوعي سحب جنسيّته؟ منحه الرئيس ميتران الجنسية الفرنسية في 1981) بسبب مناهضته التسلّط والقمع، ولانحيازه للديمقراطية والحرّيات، لم يُنقل عنه أي جملة تعاطفٍ مع الشعب الفلسطيني، أو أيٍّ من شعوب العالم الثالث لمعاناتها في الحقب الاستعمارية، بل تسلّم "جائزة أورشليم" من دولة الاحتلال في 1985، وأشهرَ اعتزازَه بها، وإعجابَه بدولة إسرائيل. وفي محملٍ ما، يبدو كونديرا في مطرحٍ نقيضٍ من الذي يقيم فيه عبد الرزاق قرنح، فكريا وهوّياتيا وثقافيا. أما الاستهجان الواسع لعدم نيْله جائزة نوبل للآداب، وهو الذي تميّزت أعمالُه بجماليّاتها وبناء شخصيّاتها واتساع التخييل المضفّر بالواقعي فيها، ففي محلّه، غير أن كونديرا ليس وحدَه الذي استحقّ الجائزة الكونية ولم يظفر بها.
تُراه زهدُ عبد الرزاق قرنح في الإعلام جعل المترجم العربي لا يكترث به؟ هل هي الميديا الغربية سوّقت كونديرا وأشاعت ضرورة ترجمته وقراءته في العالم؟ لماذا لم تُواكب النشاط الثقيل في ترجمات كونديرا إلى العربية إضاءاتٌ على مواقفه، سيما إعجابه بإسرائيل وانعدام التفاته إلى العرب؟ هل خشيت دور النشر العربية من أن تركيزا على هذا قد يؤثّر على ذيوع ترجمات رواياته في السوق العربية؟ لماذا مارس المترجم العربي الخديعة التي أخبرنا عنها الصديق سليم البيك بشأن كلمة كونديرا الاحتفائية بالجائزة الإسرائيلية؟ لماذا لا نقرأ عبد الرزاق قرنح أكثر؟ صحيحٌ أن كونديرا من أهم كتّاب الرواية في العالم، ولكن هل سيقت مبالغاتٌ عند وفاته بشأن عظمة سُرودِه؟ .. لا أعرف.