كوشنر في المنطقة .. مفرّقاً ومصلحاً!
كأنه عودٌ على بدء. جاريد كوشنر، صهر ومستشار الرئيس الأميركي المنتهية ولايته، دونالد ترامب، ومسؤول ملف الشرق الأوسط في إدارته، حطّ رحاله في الدوحة، حيث التقاه، يوم الأربعاء الماضي، أمير قطر، الشيخ تميم بن حمد. وهو سيزور السعودية، وقد لا تجد هذه السطور طريقها إلى النشر، إلا ويكون قد اجتمع مع ولي عهدها، محمد بن سلمان، في مدينة نيوم. الهدف المعلن محاولة حلحلة الأزمة الخليجية التي ترتبت على حصار قطر من السعودية والإمارات والبحرين ومصر في يونيو/ حزيران 2017، بذريعة مساهمة الدوحة في زعزعة الاستقرار في المنطقة، ودعم الإرهاب، والتواطؤ مع إيران، وهي المزاعم التي تنفيها قطر جملة وتفصيلاً.
المفارقات في هذا السياق كثيرة، أهمها ثلاث. الأولى، أن كوشنر هذا كان العراب الأميركي لحصار قطر مع انطلاقته، وثمَّة شكوك ترقى إلى اليقين أنه نسّقه مع السعوديين والإماراتيين، وهو ما أثار امتعاض وزارتي الخارجية والدفاع الأميركيتين حينها، فضلاً عن المؤسستين العسكرية والاستخباراتية، دع عنك الكونغرس، والذين أجهضوا جهوده في المحصّلة. ومعلوم أن اختراق وكالة الأنباء القطرية في شهر مايو/ أيار 2017، ونشر تصريحات ملفقة على لسان الأمير، جاءت بعد ثلاثة أيام من انعقاد القمة العربية الإسلامية - الأميركية في الرياض، والتي حضرها ترامب ورافقه فيها كوشنر. وبالمناسبة، كانت الأجهزة الاستخباراتية الأميركية قد خلصت بعد شهر من بدء الحصار إلى أن الإمارات هي من قرصنت وكالة الأنباء. الثانية، أن الحصار البرّي والبحري والجوي بدأ في الأشهر الأولى لرئاسة ترامب، في حين تسعى إدارته اليوم، وفي القلب منها كوشنر، إلى تخفيف حدّته في أسابيعها الأخيرة في الحكم. الثالثة، أن أحد أهم مبرّرات الحصار تمثل في تهمة تواطؤ قطر مع إيران، ومن ثمَّ كان المطلوب منها أن تنهي ذلك التواطؤ المزعوم، إلا أن الحصار اضطر قطر إلى استخدام المجال الجوي الإيراني، بما يدرّه ذلك من أموال على طهران، وهو عكس ما كانت تطمح إليه إدارة ترامب من خنق إيران اقتصادياً لإرغامها على إعادة التفاوض على برنامجها النووي.
لا ترامب ولا إسرائيل ولا السعودية ولا الإمارات يريدون عودة أميركية إلى الاتفاق النووي مع إيران
إذن، نحن أمام استمرارٍ للفوضى في مقاربة إدارة ترامب للسياسة الخارجية، ولكن هذا المعطى وحده لا يكفي لتفسير ما يجري من تحرّك أميركي في الخليج اليوم، بل ثمّة أسباب أخرى يمكن إجمالها في ثلاثة: تصعيد الضغط على إيران. تعقيد قدرة إدارة الرئيس المرتقب جوزيف بايدن على العودة إلى الاتفاق النووي معها. تقديم مزيد من الخدمات المجانية لإسرائيل.
في ما يتعلق بالمعطى الأول، لم تخفِ إدارة ترامب امتعاضها من استمرار الحصار الجوي على قطر، وكانت قد طالبت غير مرة بتمكين طائرات قطر التجارية من التحليق في الأجواء السعودية تحديداً، فالدوحة تدفع سنوياً لطهران حوالي مائة مليون دولار مقابل استخدام مجالها الجوي، وهو ما يضعف من سياسة "الضغوط القصوى" التي تفرضها واشنطن على الاقتصاد الإيراني. يرتبط بذلك المعطى الثاني المتعلق بإدارة بايدن. ومعلوم أن الأخير يفضّل العودة إلى الاتفاق النووي الدولي لعام 2015 مع إيران، والذي انسحبت منه إدارة ترامب عام 2018. كان بايدن نائباً للرئيس في إدارة باراك أوباما التي فاوضت عليه، وهو يقول اليوم إن الولايات المتحدة تحت رئاسته ستعود إليه، إن التزمت إيران بكل بنوده، وتراجعت عن أي إخلالٍ بها قامت به بعد عام 2018 ردّا على انسحاب الولايات المتحدة منه. كما أنه يلمّح أحياناً إلى ضرورة موافقة إيران على التفاوض على برنامجها للصواريخ الباليستية، وإنْ لم يجعل من ذلك شرطاً، على الأقل حتى الآن.
كانت إدارة ترامب قد طالبت غير مرة بتمكين طائرات قطر التجارية من التحليق في الأجواء السعودية تحديداً
لا ترامب ولا إسرائيل ولا السعودية ولا الإمارات يريدون عودة أميركية إلى الاتفاق النووي مع إيران. ورأينا كيف تحاول هذه الأطراف تعطيل أو تخريب أي إمكانية لحدوث ذلك تحت إدارة بايدن. من ذلك ما نشرته وسائل إعلام أميركية، قبل أسبوعين، من أن ترامب تباحث مع كبار مستشاريه في توجيه ضربة عسكرية لأكبر منشأة نووية إيرانية في نطنز، إلا أن مستشاريه حذّروه من مغبة أن يجرّ ذلك إلى حربٍ عسكريةٍ مفتوحةٍ مع إيران في أسابيعه الأخيرة في الحكم. والأسبوع الماضي، اغتيل العالم النووي الإيراني، محسن فخري زاده، في سيارته، وهو عائد إلى طهران، في عملية معقدة، أكدت مصادر في الإدارة الأميركية أن إسرائيل وراءها. واللافت هنا أن اغتيال زاده جاء بعد خمسة أيام من لقاء جمع ولي عهد السعودية، محمد بن سلمان، في مدينة نيوم، مع كل من وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، ورئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو (نفت السعودية وجود الأخير في اللقاء، ولكن مصادر متطابقة، أميركية وإسرائيلية، أكّدته). وخلال جولته تلك في المنطقة، زار بومبيو قطر والتقى أميرها، حيث تباحثا في مسألة السماح للطائرات القطرية بالتحليق في الأجواء السعودية. وحسب بيان الخارجية الأميركية حينها، فإن الأمير وبومبيو ناقشا "الحاجة إلى العمل معاً لمواجهة التهديدات التي تواجه الاستقرار في المنطقة، وأهمية التغلب على الانقسامات داخل الخليج لزيادة مواجهة النفوذ الخبيث لإيران". وفي المقابل، أعاد الموقف القطري التأكيد على ضرورة حل الخلافات مع إيران عبر الوسائل الديبلوماسية وعلى طاولة المفاوضات. وحسب مصدر في إدارة ترامب، ستفرض واشنطن مزيداً من العقوبات الاقتصادية على طهران في الأسبوعين المقبلين لمواصلة سياسة الضغط الأقصى عليها. وذلك كله يصبّ في سياق وضع العراقيل أمام إدارة بايدن القادمة بعد أسابيع قليلة.
مُحزن أن يحتاج الأشقاء إلى دخول الغريب، الذي لا يريد بهم خيراً، وسيطاً بينهم، وهو من مارس التحريش بينهم، ولا يزال
يبقى المعطى الثالث والمتعلق بتقديم مزيد من الخدمات المجانية لإسرائيل. بالإضافة إلى الملف الإيراني، وحسب معلومات نشرها الإعلام الأميركي، فإن زيارة كوشنر إلى المنطقة، بعد أسبوعين من جولة بومبيو فيها، تهدف، ضمن أمور أخرى، إلى الضغط على بن سلمان للإعلان عن العلاقات مع إسرائيل رسمياً، وليس التواصل معها سرّاً فحسب. كما أنه سعى إلى الضغط على الدوحة للتطبيع مع الدولة العبرية كذلك.
نتمنّى، نحن العرب، مصالحة عربية – عربية شاملة، لا سعودية – قطرية فحسب، غير أن المُحزن أن يحتاج الأشقاء إلى دخول الغريب، الذي لا يريد بهم خيراً، وسيطاً بينهم، وهو نفسه من مارس التحريش بينهم، ولا يزال. نسمع الآن كلاماً مبشّراً قادماً من السعودية حول إمكانية تخفيف الحصار الجوي والبري عن قطر، في حين لا تزال الإمارات سادرةً في غَيِّها. كم كان سيكون جميلاً لو بادرت الشقيقة الكبرى في الخليج العربي إلى توحيد الصف وتجميع كلمة الأشقاء بعيداً عن هواجسها من خسارة حليفها ترامب وصهره في البيت الأبيض، ومن دون ربط ذلك بشروط تمس بسيادة أيٍّ من دول مجلس التعاون. لو كان هناك موقف خليجي موحد، دع عنك الموقف العربي، لما تسلّلت إسرائيل وإيران إليه، ولا حتى تركيا التي يرى فيها بعض دول الخليج والأنظمة العربية عدواً أكبر من إسرائيل وإيران! على أي حال، نتمنّى أن نسمع أخباراً طيبة في الأيام القليلة المقبلة، ولكن على أرضية المصالح العربية العليا، لا مصالح أنظمة متخاصمة مع شعوبها والعرب عموماً، ولا مصالح أطراف خارجية، إقليمية كانت أم دولية. هل أنا متفائل إلى هذا الحد؟ كلا .. أتمنّى أن أكون مخطئاً.