كهنوت الطاغية: بوتين وترامب وتوابعهما
مجدّدًا، يلجأ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى الكهنوت، لتبرير احتلال أوكرانيا واستمرار الحرب المجنونة التي دخلت عامها الثاني، فيتحدّث بوصفه البطريرك المحارب من أجل الأرثوذكسية، لا المحتل الطامع في الهيمنة والتوسّع الإمبراطوري. يقول بوتين تعليقًا على زيارة الرئيس الأميركي العاصمة الأوكرانية "إنهم يحاولون هدم القيم الأرثوذكسية ويوجهون الأطفال نحو الشذوذ، ويجبرون رجال الدين على إجراء عقود زواج للمثليين".
هكذا في جملة واحدة صار الزعيم الروسي حارس الدين والفضيلة والقيم والأسرة، فتكون كل جرائمه وحروبه حلالًا بلالًا. وبهذا المفهوم، يكون قتل الشعب السوري بالأسلحة الكيماوية عملًا أخلاقيًا ينفذه بوتين بأمر الرب، واحتلال أوكرانيا وتهجير سكانها تصرّفًا لازمًا لحماية المجتمع وقيمه.
في مقابل استعمال بوتين الكهنوت الأرثوذكسي، سارع الرئيس الأميركي ومضيفه الأوكراني إلى استدعاء الكهنوت أيضًا، فقرّرا وضع خطابهما السياسي والعسكري المشترك في غلاف كهنوتي، إذ تحدّثا وفي الخلفية الكنيسة الأرثوذكسية الأكبر في العاصمة كييف، في رسالة شديدة الوضوح إلى البطريرك بوتين، ‘نهما أكثر منه اعتدادًا بالقيم الأرثوذكسية.
الشاهد أن هذه الدفاعات الكهنوتية باتت سلاحًا بيد كل الطغاة والمجرمين، بمختلف أحجامهم وأشكالهم، فالكيان الصهيوني يقتل شعبًا ويحتل أرضًا ويدنّس مقدسات باسم الرب، وحين تتصدّى له مقاومة وطنية ذات مرجعية إسلامية فإنها توصف على الفور بأنها إرهاب وتطرّف.
فكرة استعمال الدين تبريرًا للطغيان عن طريق تأليه الحاكم قديمة جدًا، وتجدها ماثلةً بامتداد التاريخ من الإمبراطورية الرومانية وصولًا إلى الشرق الإسلامي، وتجدها لازمةً عند كل المستبدّين، إما للسيطرة على الوعي العام، أو تخويف الجماهير وإرهابها، بحيث يصبح الاعتراض على الحاكم الفاشل اعتراضًا على المشيئة الإلهية على نحوٍ ما، وهذا الربط المتعسّف بين الزعيم والرب لا يؤدّي إلا إلى طريقين: التطرّف باسم الإله، أو الإلحاد لدى قطاعات لا يُستهان بها، وخصوصًا عندما يجد الناس أن كل الوعود الإلهية بالرخاء والرفاهية التي قدّمها الحاكم باسم الرب للجماهير لم تكن سوى سراب خادع.
في العام 2015 استخدم الجنرال عبد الفتاح السيسي هذه الثنائية، فقال للجمهور على الهواء مباشرة "اسمعوني كويس، جا ربنا قالي طيب أنا هخلّي معاك أكتر من الفلوس، هخلّي معاك البركة، ورّيني هتعمل ايه في بلدك وهتعمل ايه لناسك؟ هتغير صحيح؟ هتصلح أحوال صحيح؟ هتراضي الناس صحيح؟ هتسعد الناس صحيح؟".
الحاصل أنه بعد سبع سنوات من هذا الوعد الإلهي المزعوم الذي خاطب به السيسي الجماهير أنه لا بركة حلت ولا تغييرًا حدث، وبات الناس مطالبين بربط الأحزمة أكثر على بطون يفترسها الخواء والغلاء، والأخطر من ذلك كله أنه يمر من دون أن تسمع صوتًا لمن يسمّون أنفسهم رجال الدين يحذّر من أن مثل هذا العبث خطر على الدين والدنيا معًا.
غير أن هذا الطغيان باسم الدين لا ينحصر في نطاق الشرق فقط، بل تجده على نحوٍ أكثر فداحة عند الغرب، فحين قفز دونالد ترامب إلى مقعد الرئاسة الأميركية، طرح نفسه مبعوثًا مجسّدًا لنبوءاتٍ توراتيةٍ من العهد القديم، فوضع إجرامه وصفاقته بغلافٍ تلموديٍّ كهنوتي، مدّعيًا أنه المكلف من السماء بكل ما يقوم به، من تهويد القدس إلى الحرب التجارية ضد الصين، على اعتبار أن الله أرسله لهذا الدور، أو كما قال بلسان توراتي "شخصٌ ما كان عليه أن يقوم بهذه المهمة"، قبل أن ينظر إلى السماء، ويفتح ذراعيه قائلاً "أنا هو المختار". ولذلك لم يكن غريبًا أن يحتفي بتغريدات الصهاينة عنه، من عيّنة المذيع المحافظ واين آلن روت الذي قال إنّ "الرئيس ترامب هو أفضل رئيس بالنسبة لليهود ولإسرائيل في تاريخ البشرية (...) واليهود في إسرائيل يعشقونه كما لو كان ملك إسرائيل".