كريم مروّة وداعاً...
تعرّفتُ إلى المناضل اللبناني اليساري كريم مروّة (1930 - 2024)، في ثمانينيات القرن الماضي، وتطوّرت العلاقة بيننا بصورة مكثفة ومضطردة. ارتبطت لقاءاتنا الأولى في بيروت بأحداثٍ مؤلمة، فقد التقينا أول مرة في بيروت في إطار ندوةٍ نظمها المجلس القومي للثقافة العربية سنة 1987، بعد مرور أشهر على اغتيال حسين مروّة (1910 - 1987)، وتعزّز في الندوة الثانية التي نظّمتها مجلة الطريق، اللبنانية، عن فكر مهدي عامل (1936 - 1987). أما لقاءاتنا الأخرى في كل من الإسكندرية والرباط، فقد كان موضوعها الإصلاح السياسي في العالم العربي، وقد تواصلت سنوات في مكتبة الإسكندرية. ومنذ ذلك الوقت، أدركتُ أن الرجل يتمتع بحيوية استثنائية، رغم أنه كان على أبواب العقد السابع من عمره، ورغم كل المشكلات التي يعرفها المجتمع اللبناني، ويعرفها المشهد الحزبي اللبناني واليسار العربي والعالمي.
لم تتوقف العلاقة بيننا، نلتقي في الندوات لنفكّر في الحاضر العربي وأسئلته الكبرى، ونتواصل هاتفياً عندما يحصل تباعد في اللقاء.. توثقت العلاقة بيننا وازدادت متانة. تخلى الرجل عن كثير من مسؤوليات الحزب الشيوعي اللبناني، وانصرف إلى العمل الثقافي، محاولاً ابتكار كل ما يسمح له بالإعداد لمستقبلٍ عربي أفضل. كانت طموحاته في التجديد متواصلة، حتى عندما لا يجد الوسائل والمخارج التي تسمح ببلوغها. وأتصوّر أن زمن لقائنا ساهم في نسج ما سمح بتعزيز أواصر المودّة المعرفية بيننا، ففي ثمانينيات القرن الماضي، بكل ما كانت تحمله من عناوين كبرى، في تاريخ الفكر والسياسة في العالم وفي المحيط العربي، حيث نشأت حركةٌ نقديةٌ تدعو إلى مراجعة قناعاتٍ ومواقف كثيرة، من أجل التفكير في بناء مقدّماتٍ فكريةٍ جديدة، مواكبةٍ لمختلف التحوّلات التي يعرفها العالم. وفي هذه المرحلة بالذات، انخرط كريم مروّة في رسم الملامح الكبرى لمساره الجديد في الفكر والسياسة، مسارٍ تخلّص فيه من هيمنة العمل السياسي الحزبي داخل الحزب الشيوعي اللبناني، ليتّجه نحو أفقٍ أرحب يرتبط به ولا يقتصر عليه. اتّجه كريم نحو دائرة المجال الثقافي العام، حيث يمكن للثقافة الجديدة، كما تصوّرها، أن تهيئ السبل نحو مزيد من التحديث والعقلنة، الأمر الذي يعزّز خيارات العدالة والاشتراكية في التاريخ.
كان يؤمن بأن انهيار التجربة الاشتراكية في نهاية القرن الماضي لا يعني بالضرورة فشل المشروع الاشتراكي الواقعي والطوباوي
لم يتوقّف كريم مروّة عن الكتابة والتفكير طوال العقود الثلاثة الأخيرة في حياته، وفي عناوين الكتب والحوارات التي أصدرها ما يبرز روح الخيارات التي عيَّنت بالأمس مجالات اهتمامه، وأصبحت تُعيِّن، منذ نهاية القرن الماضي، نوعيات حضوره في المشهد الثقافي العربي. من بين هذه العناوين: "أفكار حول تحديث المشروع الاشتراكي"، "الفكر العربي وتحوّلات العصر"، "في البحث عن المستقبل العربي"، "نحو نهضة جديدة لليسار في العالم العربي". وكانت الكلمة الأثيرة لديه في مختلف المصنّفات التي أنجز، النقد والمراجعة، النقد الذاتي ومراجعة تجربته السياسية، وارتبط ذلك في حياته، بحرصه الشديد على الاستماع إلى تحوّلات الزمن ونمط إيقاعه الجديد، في ضوْء الثورات المعرفية ونمط التعولم الذي يرافقها، ويرسم الملامح الكبرى لتحوّلاتها.
انتبه إلى أن الأدوات المنهجية والمعرفية، التي كانت سائدة في النصف الأول من القرن العشرين، لم تعُد كافية ولا مناسبة لتشخيص التناقضات الجديدة في مجتمعنا وفي عالمنا. ونقرأ في كتابه "اعترافات نهاية القرن"، الذي يستوعب اليوميّات التي كتبها سنة 1999 مواقفه من مجموعة من الأحداث اللبنانية والعربية والعالمية، إلّا أن المهم في هذه اليوميات هو ما يرتبط بالحزب الشيوعي اللبناني والأحزاب الشيوعية في العالم، وكذا المشهد السياسي في لبنان زمن الحرب الأهلية وما تلاها من تداعيات.
تعكس آثار كريم مروّة خلاصاتٍ عينية، لتجربة انخراطٍ واعٍ ومسؤولٍ في العمل السياسي، بكل ما أثمر من نجاح وإخفاق
كان يؤمن بأن انهيار التجربة الاشتراكية في نهاية القرن الماضي لا يعني بالضرورة فشل المشروع الاشتراكي الواقعي والطوباوي، والذين تحدّثوا بالمناسبة المذكورة عن "نهاية التاريخ" وانتصار التجربة التاريخية والاقتصادية الليبرالية والرأسمالية، لم ينتبهوا إلى الأبعاد المختلفة التي ساهمت، وما زالت تساهم، في بناء المشروع الاشتراكي، بالنسبة للإنسانية اليوم وغداً. وقد ظلّ طوال حياته مؤمناً بالجذور الإنسانية التاريخية والنسبية، التي تقف وراء الفلسفة الماركسية وتحدّد الأفق الاشتراكي الذي رسمت. وإذا كان من المؤكّد أن هذا الأفق اتخذ في القرن التاسع عشر صيغة فلسفية اجتماعية واقتصادية جديدة، وضحت علاقة المشروع بنمط الإنتاج الرأسمالي، فإن تجربة ثورة 1917 وما تلاها عملت على بلورة مشروع في التطبيق التاريخي، شمل قارّات ومجتمعات وغذّى طموحاتٍ وصراعاتٍ محدّدة، وانتهى إلى المآل الذي انتهى إليه، معلناً تراجع تجربةٍ معيّنةٍ في التاريخ بل انهيارها، ومن دون أن يعني ذلك أن الأفق الاشتراكي لم يعُد له جدوى. وقد كان كريم يعتقد أن روح المشروع ما زالت أملاً يغذّي آمال البشرية، في نظام اجتماعي أكثر عدالةً وإنصافاً، لهذا السبب ظل وسيظل سؤال الاشتراكية مشروعاً.
يتمتّع كريم مروة بكثير من الشجاعة في إبداء الرأي، وفي الاعتراف بالأخطاء، وفي إعلان أوجه القصور وأشكال التقصير، التي صاحبت الفكرة الاشتراكية في الفكر المعاصر. كما نعثر على إشاراتٍ قويةٍ في موضوع أخطاء الممارسة الاشتراكية في الأنظمة السياسية الاشتراكية، وفي الأحزاب الشيوعية العربية. إضافة إلى ذلك، نكتشف في مواقفه وآرائه عناصر ومعطيات نظرية مؤسّسة في إطار نوع من الجرأة، لم نألفها في المتداول من أدبيّات كثيرين من القادة السياسيين في المشهد السياسي العربي، وخصوصا في موضوع مراجعة تاريخهم الشخصي، وتاريخ العقائد التي ربطوا مصيرَهم ومصير شعوبهم بها.
تتمتّع الكتابات التي ركّب وهو يحاول تطوير رؤيته لتجربته، وتجارب العمل السياسي اليساري في عالمنا، بميزتيْن أساسيتين: وضوح العبارة والقصد، والاستناد إلى خلاصات مُستمَدّة أساساً من تجربته في مجال العملين السياسي والثقافي، في علاقتهما بتجارب تاريخ السياسة والفكر في العالم. والميزتان معاً تعكسان نُضجاً في الرؤية السياسية حصل لديه بفعل الصراعات التي خاض، والمواقف التي احتلّ في ممارسته السياسية والثقافية، التي فاق عمرها سبعة عقود. وتعكس آثاره خلاصاتٍ عينية، لتجربة انخراطٍ واعٍ ومسؤول في العمل السياسي، بكل ما أثمر من نجاح وإخفاق. ولهذا السبب، ندعو إلى العناية بإنتاجه ومحاولاته في المراجعة والنقد. كما ندعو إلى مناقشة هذا الإنتاج ومحاورته، بهدف الاستفادة من نتائجه، في مجال تطوير تجربة اليسار العربي.