كركوك... عُقدة الإثنيات وعَقد المنتصرين
مرةً أخرى، مدينةُ كركوك العراقية مسرحٌ لصِدام إثني كُردي تركماني عربي بعد تظاهرات قومية متبادلة سقط فيها ضحايا. خلْفَ كلِ جمْعٍ من الإثنيات تنظيماتٌ سياسية ومليشياوية. انطلقت الأزمة أخيرا بعد قرارِ حكومة محمد شيّاع السوداني، بموجب اتفاق تشكيلها، السماحَ للحزب الديمقراطي الكردستاني (البارتي - حزب البارزاني) بالعودة إلى مقرّه السابق لأول مرّة منذ إخراجه منه في أكتوبر/ تشرين الأول عام 2017 ضمن خطوات إخلاء المدينة من البيشمركة (القوات الكردستانية الرسمية).
ما حصل عام 2017 نجمَ عن استفتاء انفصالِ كردستان عن العراق دعا إليه رئيس الإقليم السابق، مسعود البارزاني، وشمَل كركوك. ردّ رئيس الوزراء الأسبق، حيدر العبادي، مدعوما إيرانيا وتركيا، بالسيطرة كاملا عليها. اعتمدت سلطةُ المركز وقتها على القوات التقليدية والحشد الشعبي (المليشيات الرسمية). لم تندلع حربٌ، إذ إنّ انسحاب البيشمركة التابعة للاتحاد الوطني الكردستاني (اليكتي - حزب جلال الطالباني) أدّى إلى احتواء الموقف. أمرٌ فسّره مراقبون خضوعا لضغوط مارسها قائد فيلق القدس الإيراني وقتئذ قاسم سليماني. رأى آخرون أن الاتحاد نشَد الحيلولةَ بين غريمه البارزاني ورغبتِه في انتصار قومي جديد يعزّز هيمنتَه الحزبية.
قرارُ الحكومةِ الاتحادية السماحَ بإعادة المقر أجّج غضباً في أوساط عربية وتركمانية واتهاماتٍ بأنها محاولة لإعادة البيشمركة. هناك مَن برّر الرفض بأن المبنى حكومي وليس حزبيا. تدخّلت حتى المحكمة الاتحاديةُ في الأمر، رغم وجود شكوكٍ فيما إذا كانت القضية من اختصاصاتها. لا أميل إلى وصف الأحداث الدامية بأنها مواجهة أهلية. رغم أن للناس من القوميات الثلاث أسبابَهم للخوف من بعضهم، إلا أن المحرّك الرئيس لهذا الإجراء هو جماعات سياسية عربية وكردية بدرجة رئيسة، ويلوح في الصورةِ نشاطٌ للحشد الشعبي النافذ في كركوك منذ الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش).
ظلت كركوك واحدةً من مظاهر إصرار المنتصرين على كتابة عقدٍ يزيد من معاناة الخاسرين، وحِلمِ الخاسرين في الانتصار كي يبرموا عقداً يُذِل خصومَهم
ليست الأزمة جديدة، إنما ممتدّة عقوداً. كان اللعب على المخاوف الإثنية مربكاً منذ بدايات الدولة العراقية. في كركوك تحديداً أحدُ أهمِّ تجلياتِه منذ 1924 بعد مواجهة بين الآشوريين (الآثوريين) والسلطة الحكومية، مرورا بمذبحة كاوور باغي عام 1946 ومجزرة 1959، ولم تكن آخرَها منهجيةُ التغيير الديمغرافي المكثفة خلالَ عقدي سبعينيات القرن الماضي وثمانينياته. أما في العشرين عاما الأخيرة، فتبذُل الأطرافُ الكردية جهوداً لصناعة واقع ديمغرافي يخدمها، بلغَ درجةَ العملِ على خنق كل وجود إثني معرقل لضم كركوك إلى الإقليم. كما أن أطرافاً عربية اعتمدت طويلاً على سياساتٍ عنيفةٍ لمنع علاج الوضع. في المقابل، الإطار الدستوري لحل قضية المناطق المتنازع عليها (التي طبّقت فيها تغييراتٌ ديمغرافية سلطوية) رسمته بغداد وأربيل حصريا. اتفق شركاء عراق 2003، حزب الدعوة والمجلس الأعلى ومن لفّ لفّهما من الأحزاب الشيعية، والتنظيمان الكرديان، الحزب الديمقراطي والاتحاد الوطني، على معالجة مسألة كركوك تمهيدا لترتيب وضعِها ضمن المادّة الدستورية الانتقالية "140". بالفعل، بوشرت إجراءاتٌ واسعة لإعادة الكُرد المهجّرين وسط اتهامات بأن كُردا ليسوا من أهلِها قد أسكنوا أيضا، وشُجع أو أجبر مستوطنون على المغادرة. السلطات في بغداد، تحديدا في زمن نوري المالكي، اتّهمت بالتهرّب من القيام بتنفيذ جانبها من المادّة. بهذا النحو، صارت كركوك مدينة مسيطرا عليها كرديا، إلا أنها ليست تابعة للإقليم. جاءت أحداث 2017، وقرّر العبادي إخراجَ البيشمركة بالقوّة، ما أدّى إلى إنهاء السيطرة الحزبية الكردية. بدلا من ذلك، اتسع نفوذُ الحشد الولائي، معتمداً على أن تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) ما يزال نشطاً هناك.
إلى ستة أعوام، لم تكن بغداد اللاعبَ الأولَ داخل كركوك، وحين صارت صاحبةَ القرار اعتمدت على سلطة مليشيا بنكهة رسمية
هنا تتعقّد المسألة. إلى ما قبل ستة أعوام، لم تكن بغداد اللاعبَ الأولَ داخل كركوك، وحين صارت صاحبةَ القرار اعتمدت على سلطة مليشيا بنكهة رسمية. كأنّ فعلَ الدولة سيبقى غائبا عن علاج المشكلة الأصلية، وهي أن كركوك شأنٌ معقدٌ يستدعي بدءا وعيَ خصوصيتِها لمعالجة حالِها، وليس عبر غلبةٍ قومية أو إثنية. صنَع صدّام حسين واقعاً ديمغرافياً مزريا في أكثر من منطقة عراقية، ومن جاءوا بعده قاموا بمعالجات انتقامية وفرضِ واقعٍ فئوي بديل، وها هي التداعيات. الواقع البديل هو وضعُ تنافرٍ بين إثنيّاتٍ تستخدمها قوى سياسية. اقتف "داعش" أثر أمِّه القاعدة في محاولة الاستفادة من هذا التعقيد عبر التغلغل في مناطق عربية كركوكية متاخمة لمحافظتي نينوى وصلاح الدين. ويتضاعف توتّر المنطقة بأنها نقطة تركّز عليها تركيا التي ترى التركمان امتداداً قوميا، كما أن لها في كركوك وفي الموصل أطماعَ احتلال. فضلا عن ذلك، تبتغي أنقرة منعَ الكرد من التمدّد في منطقة حيوية، وهو أمرٌ تشترك فيه مع طهران المرتاعة مِن حصول التنظيمات الكردية المعارضة على عمق جغرافي أبعد في إقليم كردستاني عراقي أوسع.
صحيحٌ أنه لا دليل دامغاً على تورِّط جارتي العراق الشمالية والشرقية في الأحداث أخيرا، إلا أن المؤشّرات تشي بوجود حراك إقليمي جديد ضد الكُرد في المنطقة. يكثّف الإيرانيون نشاطاً عسكرياً واستخبارياً في مناطقهم الكردية وشرقي كردستان العراق بعد احتجاجات مقتل مهسا أميني. بالطبع، نشاط تركيا أوضح وأصرح عدوانيةً، كونها تشنّ عمليات عسكرية واسعة وتحتل رسميا مواقع في محافظة نينوى. لذا من الصعب فَهمُ المجريات بلا مقاربات إقليمية. كما يبعث على الحيرة أن الأحداث تتزامن مع تصعيد عسكري بين عشائر الجزيرة الفراتية في سورية "وقوات سوريا الديمقراطية" (قسد) الكردية، بالتزامن مع تحرّكات إيرانية ضد الوجود الأميركي الداعم للوحدات الكردية السورية في المنطقة. ومن المعروف أن العرب، امتداداً من الحويجة في كركوك إلى تخوم حلب، هم تقريباً متداخلون قبليا ومذهبيا.
صروفُ كركوك غيرُ قابلة للعلاج بالنهج المعتمد. المتعاقدون المنتصرون أنفسُهم هم من أخلّوا تكرارا باتفاقاتِهم
ومع أن ربْطَ الأحداث يظلّ في حدود الاستئناس بمعطياتٍ غير كافية لتبنّي رأي قاطع، من المؤكّد أن هناك حاجة ماسّة لإعادة قراءة منطقة التماسّ هذه، باعتبارها جغرافيا هرجٍ حقيقي يتداخل فيه طغيانٌ واستهتار دائم لإثنية قومية أو مذهبية أو دينية على حساب تكوينات قومية ودينية الأخرى، مع فجورِ تلك الأخريات، حين تحصل على فرصة استرداد حقوقِها وكرامتها المهدورة. الحقيقة الصعبة في كركوك أنه أريد معالجةُ الجرائرِ القديمة باتفاق المنتصرين، الأحزابِ الشيعية والأحزابِ الكردية. لم يُسأل أهلُ المدينة عن الحلول والترتيبات والمآلات. أرادت القوى الإسلامية الشيعية والقومية الكردية فرضَ أمرٍ واقعٍ ضد الأمر الواقع المفروض من الأحزاب القومية العروبية، وفي مقدّمتها حزب البعث. لم يعالج الجديدُ إلا مشكلاتٍ قليلةً، ثمّ تَسبّب بمشكلاتٍ أخرى. فإلى جانب كركوك، جارتُها الموصل، حيث الحضورُ الصريح لتكوينات دينية متنوّعة خسرت كثيراً في صراع محموم على الهوية، فحاضرة العراق الشمالية هي الأخرى أضحت متشرذمةً ومفكّكة حتى قبل أن يتّخذها "الجهاديون العالميون" عاصمةَ خلافتهم.
ألا يستدعي هذا إدراكَ أن تعاقد المنتصرين السابق لمعالجة المشكلات الإثنية المتراكمة قد فشل فعلا، وأن الحاجة ماسّة لتفاهمات بين المعنيين المباشرين، ولاتفاق جديد يحترم تنوّع المناطق المتعدّدة قوميا ودينيا؟ بالطبع، سترفض الأحزابُ الكردية الأمرَ، لأنها أحد أهم المستفيدين من تعاقد المنتصرين. لن يرضى زعماء الشيعيةِ السياسية اتفاقاً ينطلق من مراعاة سكان المناطق الشمالية المتنازع عليها لأن قواعدَهم الشعبية هناك محدودة، وأيّ اتفاقٍ يراعي تكوينات المناطق المتنازع عليها سيُنهي وجودَهم المسلح، سواء في كركوك أو نينوى. قد تقبله قيادات السنية السياسية علنا، لكنها ستحاول سرّا عرقلتَه خوفاً من خسارة موقعِها كجماعات سياسية تستفيد من شكوى التهميش، للحصول على مكاسب حزبية لم تكن لتحصَل عليها في ظلّ اتفاق جديد أكثر وضوحا يجعل جمهورَها مرتاحا أكثر لتنويع اختياراته. في معادلة هذه الأضداد المتخادمة، يتوجّس التركمان خيفةً من القوى الكرديةَ لأسبابٍ تاريخية، ويرتعب الأيزيديون والمسيحيون الآشوريون والكلدان والأرمن من القوى العربية لما فعله "داعش" وحليفاتُه وسلفُه، وأيضا ما تفعله الأحزاب الإسلامية من أسلمة المظاهر أو تشييعها.
صروفُ كركوك غيرُ قابلة للعلاج بالنهج المعتمد. المتعاقدون المنتصرون أنفسُهم هم من أخلّوا تكرارا باتفاقاتِهم. كلٌ منهم اتفق مع الآخر للحصول على مكاسب من جانبٍ واحد معرقلا الجوانب الأخرى. وفي النهاية، في أزمات متوالدة تُعالج مؤقتا، سقط كثيرٌ مما تعاقدت عليه أحلافُ المنتصرين. هي أزمة الهويات المستغلَّة أيديولوجياً وفئوياً لتبقى عُقدة. كانت كركوك أولَ رزايا العراق أو بين أولِها. لم يحصل أن عولجت جذرياً، إنما بالقوة فقط، فظلت واحدةً من مظاهر إصرار المنتصرين على كتابة عقدٍ يزيد من معاناة الخاسرين، وحِلمِ الخاسرين في الانتصار كي يبرموا عقدا يُذِل خصومَهم، في سلسلة دائبةٍ من الظلامات المتناسلة والتهميش المستمرّ.