كتلة الغضب الصاعدة

27 اغسطس 2022
+ الخط -

تبدو تعليقات الكثير من العرب المسلمين التي تملأ صفحات العالم الأزرق تفاعلا مع محاولة اغتيال صاحب "آيات شيطانية"، سلمان رشدي، مخيفةً وتنذر بأيام أشد سوادا قادمة على هذه المنطقة المعطوبة من العالم، فالفرح بالجريمة لا يخفي نفسه، وتمنّي موته أو تمنّي بقائه بين الحياة والموت ليحظى بمزيدٍ من الألم يكشف عن فاشيةٍ ساديةٍ تحتاج ربما دراسات سوسيولوجية وسيكولوجية معمّقة لمعرفة متى وكيف بدأ كل هذا العنف، ولماذا يُمجّد فعل القتل، أو الاعتراف برغبةٍ مكبوتةٍ بأن يكون كل منا هو القاتل أو هو السلاح الذي يقتل. ولم يقتصر أمر التشفّي على محاولة قتل رشدي الذي يمكن تفهمه بإحالته إلى غريزة القطيع الهائجة، عندما يتعلق الأمر بالإساءة إلى الدين الإسلامي، مثل ما حدث في ما يخص رسام الكاريكاتير الدانماركي أو مع مجلة شارل إيبدو. لكن شماتة وتشفّيا وسعادة لوحظت عند بعضهم إثر حادثة احتراق كنيسة أبو سيفين في القاهرة، راح ضحيتها عشرات من المصلين، رجالاً ونساء وأطفالاً، كانوا في طقس العبادة الخاص بهم في مكان خاص بهم. رغم أن القرآن الكريم يسمّي المسيحيين أهل الكتاب فهم ليسوا كفارا في النص الديني الإسلامي الذي حثّ على احترامهم. .. ما سبب هذا التشفي بموت أبرياء إذا؟

في ما يخصّ حادثة سلمان رشدي، كان واضحا أن الراغبين بموته والمؤيدين لطعنه هم من كل العالم العربي والإسلامي، بمذهبيه الرئيسيين، السنّي والشيعي. لم ينج من هذا سوى قلة قليلة تؤمن بحرية الكلمة والفكر والرأي لأيٍّ كان. أما حادثة حرق الكنيسة فالشامتون بها هم المتطرّفون إسلاميا أو المنتمون لتيارات أصولية وسلفية وجهادية، خصوصا في الدول التي لا يوجد فيها تنوّع ديني أو مذهبي في مجتمعاتها.

نعيش نحن العرب والمسلمين حاليا في أسوأ مراحل التاريخ، إذ مرّت على المجتمعات العربية عقود طويلة من الاستبداد والتهميش والتجهيل والتفقير ومحاولات الإقصاء عن كل مظاهر الحداثة، التي لم يعد بإمكان المنظومات الحاكمة منعها من أن تكون حاضرةً بقوة في المجتمعات العربية، ما يعني أن صدمةً كبيرة سوف تنشأ لدى هذه المجتمعات جرّاء الاصطدام بها وملاحظة الفروق الهائلة بيننا وبين الآخر الذي كان، إلى وقت قريب، مجهولا تماما لدى العامّة المقصية. وعادة ما تنتج منظومة الاستبداد ارتفاعا في مستوى الشوفينية والعنصرية الدينية والقومية. الشوفينية التي تعتبر من يختلف عنها عدوا مؤكّدا. وفي العقد الأخير، وبعد انهيار حلم التغيير وفشل الربيع العربي وتعرّض العالم كله لأزمات اقتصادية مهولة، تظهر أكثر في مجتمعاتنا بفعل الفقر المديد والفساد والحروب، تكوّنت كتلة هائلة من الغضب في قلب هذه المجتمعات ولم تعد الساحات والشوارع آمنة لها، بعد المآلات الكارثية للربيع العربي.

ومع الانفتاح المفاجئ لدى دول عربية كانت هي المصدر الأول لفتاوى التكفير وللتعصب وللتشدّد الموجّه أساسا إلى مجتمعات وحواضر دول تؤمن بإسلام سمح ومعتدل، بات الخوف من أي تغيير يزيد التشبث بما لدى هذه المجتمعات، والدين هو آخر ما تبقى لها، الدين الذي تراه العامّة يتعرض لمؤامرات متواصلة، أو على الأقل هي تلجأ إلى تفسير كل المتغيرات المابعد حداثية في الحياة بالمؤامرة على الدين. موت المتآمر إذاً هو الحل الوحيد، وإنْ كان هناك من يتطوّع لقتله، فهو بطلنا الديني الذي علينا مساندته. أما الأنظمة وما فعلته وما تفعله، فنحن ندير رؤوسنا عن أفعالها، متوجهين بها وبغضبنا نحو آخر لا ذنب له سوى أنه يفعل ما لا نجرؤ نحن على فعله: التفكير والتمتّع بحقه في العيش والرأي والقول والتعبير والاحتجاج. أو نحو آخر يقاسمنا كل البؤس الذي نعيش فيه لكنه لا يشبهنا، لا ينتمي إلى رؤيتنا عن الله والدين، لا يمكننا قتله مباشرة. ولكن يمكننا تمنّي موته، بوصف ما يؤمن به جزءا من المؤامرة.

كل هذا الغضب والعنف المترافق مع استعلاء وشوفينية تشتهي قتل الآخر وتباركه، والذي يكاد يفجّر مواقع التواصل، منشأه شعورٌ متزايدٌ بالعجز عن التغيير وبالعجز عن العيش بكرامة وبالعجز عن نيل أقلّ الحقوق المستحقة، لكن هذا كله أيضا هو تمسّك الغريق بحبال القش. إذ يدرك هؤلاء في قرارتهم أن البديهيات التي رافقت حياتهم تتخلخل حد عجزهم عن إيقاف تحطّمها أمام أعينهم، فيزدادون شراسة في الدفاع عنها، مظهرين كل مخزون الغضب، في محاولاتٍ أخيرةٍ للصمود أمام متغيّرات الحياة التي ستعصف بكل بديهياتهم وثوابتهم.

BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.