كاتبٌ برتبة أصبع اتّهام
في التاسع والعشرين من سبتمبر/ أيلول سنة 1902، تُوفِّي زُولا. المعنيّ هنا طبعاً إميل زُولا (1902)، الكاتب الفرنسي، وليس جيانفرانكو زُولا لاعب كرة القدم الإيطالي المعروف. خَلْطٌ لا صلةَ لهُ بالمزاح. أثبتَ سبرُ آراء فرنسيّ نُشِر منذ قرابة العقدَين أنّ الأقلّيةَ الفرنسية التي تعرف من هو إميل زولا هي التي شاهدت الفيلم التلفزيوني المُستوحَى من رواية "جرمينال" (1885). أمّا البقيّة فإنّهم لا يعرفون زولا الكاتب، لكنّهم يعرفون حقّ المعرفة زولا "الكوّارجي". هؤلاء هم الزبائن الجيّدون للمرحلة الشعبويّة السعيدة، الذي تعتاش من رواجها الفضائيّات المتناسلة هذه الأيّام، التي لا نعرف هل تجهل إلى أيّ كارثة تسير بشعوبها أم إنّها تعلم وتقترف الأمر عن إضمار.
ما إن تُحدِّث هؤلاء عن إميل زولا، مؤلّف "نانا" و"الحلم" و"العار"، حتّى يُخيّل إليهم أنّك تُحدِّثهم عن فِرَقٍ لا يعرفونها، التحق بها نجمُهم اللامع جيانفرانكو زولا وسط ميدان نابولي سابقاً، ثمّ بارما وتشيلسي وكاغلياري. والحقّ أنّهم معذورون في ذلك. بريطانيا نفسها تركت زولا الأديب العبقري جانباً، واهتمّت بزولا "الكوّارجيّ"، فمنحته منذ 2004 صفةَ المواطنة الشرفيّة، وكلّفت سفيرها في إيطاليا آنذاك إيفور روبيرتس بتسليمه شهادةَ المُواطَنة نيابةً عن الملكة إليزابيث الثانية، مكافأةً له على الخدمات الجليلة التي أسداها لكرة القدم البريطانيّة. لماذا يُلام الناس البسطاء على الرقص إذاً، إذا كان أرباب البيوت طبّالين؟ أقول هذا الكلام وأنا من عشّاق كرة القدم المزمنين، فماذا لو كنت من أعدائها اللدودين؟
كان إميل زولا شجرةً فيحاءَ في سلالةٍ فارقة. لم يتورّع عن الكلام في فم الذئب. لم تكن له عصبيّة أو "لوبيّات"، ولم يزايد على زملائه وهو في منعة جغرافية أو رمزية. أين سلالته العربيّة اليوم؟ ... إنّهم موجودون لا شكّ في ذلك، لكنّهم لا حول لهم ولا قوّة. يتكلّمون فيُخوَّنون أو يُغيَّبون. وجوههم ليست "تليجينيك". لا يتقنون فنّ "التزأبُق". لا يتصنّعون الإثارة. لا يتصرّفون كمحترفي التآمر وكتبة التقارير. لا يبرعون في إنتاج الرداءة. ليسوا ببّغاوات ولا ماسحي أحذية، ولا تتلخّص معارفهم في الإدلاء بمعلومات، وكأنّهم يأتون بما لم يأتِ به الأوائل. ألا يعني هذا كلّه أنّهم لا يملكون شيئاً من المؤهّلات التي يطلبها المشهد الإعلاميّ اليوم؟ ... الجواب: صحيح.
إضافةً إلى أنّ إميل زولا هو المثقّف الذي تدخّل في الشأن العامّ، وطرح الأسئلةَ المزعجةَ، ورفض محاكمة البشر من منطلق الدين أو العرق أو المعتقد، وخاطب، سنة 1898، فيليكس فور (رئيس الجمهورية الفرنسية في حينه) مُطلقاً في صفحات الصحف عبارته الشهيرة "إنّي أتّهم"، إنّه الكاتب الذي ارتقى إلى مرتبة أصبع الاتّهام في وجه عمى عصره وصممه. وقف مع درايفوس أيّامها، وأغلب الظنّ عندي أنّه لو عاش بيننا اليوم لوقف مع كلّ مقهور مردّداً أكثر من مرّة: "إنّي أتّهم". لا فرق لديه في ذلك بين غرب وشرق. بين أبيض وأسود. بين أوروبّي وأميركي أو بين فلسطينيّ ولبناني. هذا النوع من المُثقّفين تحتاج إليه الشعوب الحيّة التي تطلب الحياة، أمّا الأخرى فهي تقصيه عن المشهد وتطارده في المنافي، بل لعلّها لا تتورّع عن قتله.
في التاسع والعشرين من سبتمبر سنة 1902 مات إميل زولا اختناقاً بسبب عطلٍ في مدخنة غرفة نومه. لكنّ أحداً لا يعرف حتّى اليوم هل كان العُطلُ طبيعيّاً أم أنّ جهةً مجهولةً أرادت أن تتخلّص من هذا المثقّف المزعج فأرسلت يداً آثمةً، (ربّما هي يد هنري بورنفوس؟) كي تسدّ المدخنة.
تغيّرت اليوم الأيدي الآثمة، ولم تعد الجهات الغامضة مجهولةً دائماً. لكنّ مصير أحفاد إميل زولا من كتّاب وصحافيين ظلّ واحداً؛ ضحايا بالمئات بين قتلى ومساجين ومطاردين في مختلف جهات العالم حسب تقارير مُنظّمات عديدة من بينها لجنة حماية الصحافيين (CPJ). لم تضبط بعد أرقام سنة 2024، التي يبدو أنّها تشهد ذروتها تحت القبضة الصهيونيّة في غزّة وبيروت، لكنّها لم تتراجع في المناطق الأخرى، ومنها العديد من البلدان العربيّة.
غُيِّبَ إميل زولا وأمثاله بالأمس، وها هم يُغيَّبون اليوم. لكنّ كلّ كاتب يُغيَّب من المشهد هو إعلان إدانة في وجه الجميع. إنّه أصبع اتّهام بحجم الأرض تطلقه شهوةُ الحريّةِ وتدفعه الرياحُ وتحرسه النجومُ ويحمله قوسُ قزحٍ بعد كلّ مطر ليصرخ في وجه الجميع: "إنّي أتّهم".