قُتِلَ شاهد ولكن الحقيقة لا تموت
لم تكن مراسلة قناة الجزيرة، الشهيدة شيرين أبو عاقلة، أولى ضحايا إسرائيل من الإعلاميين. وللأسف، لن تكون آخرهم. وحسب بعض التقديرات، قتلت إسرائيل 55 صحافياً وإعلامياً منذ العام 2000. دع عنك، طبعاً، مئات المصابين في صفوفهم والانتهاكات والاعتقالات بحقهم. إذن، ما يجري عملية ممنهجة، تهدف إلى إسكات صوت الحقيقة، والتعتيم على الجرائم التي ترتكبها دولة الاحتلال، ذلك أن المعلومة والصورة تفضحان زيف الدعاية الإسرائيلية أنها تواجه إرهاباً، وأن المقاومة الفلسطينية هي المسؤولة عن الفظائع المرتكبة بحق الفلسطينيين لا هي. وكلنا نذكر الجريمة التي ارتكبتها إسرائيل في مثل هذا الشهر (مايو/ أيار) من العام الماضي (2021) خلال عدوانها على قطاع غزة، عندما أقدمت على قصف برج الجلاء المكون من 12 طابقاً، وكان يضم، بالإضافة إلى شقق سكنية، مكاتب إعلامية، مثل وكالة أسوشييتد برس الأميركية، وقناة الجزيرة، وغيرهما. حينها، حاولت حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، بنيامين نتنياهو، الزعم بأن إدارة جو بايدن أحيطت علماً بمزاعم إسرائيلية لتبرير القصف وأجازته، إلا أن إدارة بايدن، المنحازة أصلاً لتل أبيب، لم تتمكّن من تحمل العنجهية تلك، فكانت أن ضغطت عليها لوقف العدوان، وهذا ما جرى.
تدرك إسرائيل أن أكاذيبها لم تعد تنطلي على أحد. أبعد من ذلك، تدرك إسرائيل واعتذاريوها أنه حتى ترهيبهم لم يعد يجدي نفعاً
تدرك الدولة العبرية أنها تخسر معركة الرأي العام العالمي بشكل مطّرد، وأن أكاذيبها لم تعد تنطلي على أحد. أبعد من ذلك، تدرك إسرائيل واعتذاريوها أنه حتى ترهيبهم لم يعد يجدي نفعاً. مباشرة بعد اغتيال أبو عاقلة، غرّدت منظمة العفو الدولية "أنهوا نظام الأبارتهايد الإسرائيلي". هذا على الرغم من أن تل أبيب وأنصارها كانوا شنّوا عليها حملة شنيعة متهمين إياها بـ"معاداة السامية"، بعدما أصدرت تقريرها الكاسح، في فبراير/ شباط الماضي، بعنوان: "نظام الفصل العنصري (أبارتهايد) الإسرائيلي ضد الفلسطينيين: نظرة على عقود من القمع والهيمنة". وقبل عشرة أيام من اغتيال أبو عاقلة، وتحديداً في الأول من شهر مايو/ أيار الجاري، كان أحد أصلف اعتذاريي إسرائيل في واشنطن، رئيس منظمة رابطة مكافحة التشهير (Anti-Defamation League) الصهيونية، جوناثان غرينبلات، يعلن، بكل وقاحة، أن معاداة الصهيونية هي صنو معاداة السامية، وأن منظمته، التي تتلفع بعباءة الحقوق المدنية، ستوظف كل إمكاناتها الإعلامية والقانونية والمالية والسياسية لاستهداف كل من يجرؤ على انتقاد الصهيونية كأيديولوجيا. وبالطبع، إسرائيل في قلب المعنى هنا تعبيرا أبرز عن تلك الأيديولوجيا العنصرية الفاشية.
دماء أبو عاقلة، وتصاعد اعتداءات إسرائيل في فلسطين المحتلة، ستكون بمثابة زيتٍ تنار به مصابيح الحقيقة التي تحاول جاهدة إخمادها
الخبر السيئ لإسرائيل واعتذارييها أن قرص الشمس لا يُغطّى بغربال، وأن محاولاتها اليائسة والوحشية لإخماد أصوات الحقيقة وأقلامها وكاميراتها قد تنجح في تحييد أحد رسلها أو مجموعة منهم، ولكن لا يمكن لها أبداً أن تطفئ عين الحقيقة. خذ مثلاً ضغوط إسرائيل وأنصارها، الحثيثة، على وسائل التواصل الاجتماعي، مثل فيسبوك وتويتر وإنستغرام، لتقييد المحتوى المؤيد لفلسطين. نجحت تلك الجهود في فرض قيودٍ كثيرةٍ على ذلك المحتوى، بل وحتى حجب كثير منه، ولكن ذلك لم يترجم تراجعاً في التأييد لفلسطين وشعبها بين الأجيال الشابة، وتحديداً مواليد ما بين 1997 - 2012، أو من يعرفون بـ" الجيل زد". هذه معطياتٌ مثبتةٌ في استطلاعات رأي موثوق بها ودراسات رصينة ترصد تصاعد حركة العدالة الاجتماعية عالمياً، وفي القلب منها فلسطين. يرى هؤلاء بأم أعينهم، مباشرة عبر شاشات هواتفهم وحواسيبهم، وقبل انطلاق جهود تقييد المحتوى والحجب والحظر، ممارسات إسرائيل الوحشية والعنصرية الشائنة. وبالتالي، فإنهم لا يقبلون مزاعم الدولة العبرية بأنها تجسيد "داود اليهودي" الذي يتصدّى لـ"جالوت الفلسطيني". الحقيقة التي تجليها المعطيات والصور هي العكس تماماً، وهذا ما تخشاه إسرائيل، ولكنها تقف عاجزة عن كبح جماحها.
أمام ذلك كله قد يتوهم بعضهم في تل أبيب أن محاولات كتم صوت الحقيقة وخنقه، بل وحتى تصفية رسله وتحييدهم، هي الحل الوحيد المتبقي أمامهم. وقد يندرج اغتيال أبو عاقلة في هذا السياق، سواء أكان قرار تصفيتها مؤسسياً أم فردياً بفعل التعبئة والتحريض على الكراهية، إلا أن إسرائيل ستتعلم الدرس قاسياً هذه المرّة، إذ إن دماء أبو عاقلة، وتصاعد اعتداءاتها في القدس، وعموم فلسطين المحتلة، ستكون بمثابة زيتٍ تنار به مصابيح الحقيقة التي تحاول جاهدة إخمادها.