قوائم "فتح" تتنافس
نتج عن اتفاقية إعلان المبادئ (أوسلو)، التي وقعتها إسرائيل مع منظمة التحرير الفلسطينية عام 1993، وضع مجتمعي مربك، وهو شتات جغرافي تمزّقت فيه البقية الباقية من الأراضي الفلسطينية التي رضيت إسرائيل بالتخلي عنها بسبب الصعوبة في إخضاعها، ولإدراكها أنها أراضٍ غير قابلة للعيش والتكاثر الصهيوني، ولكنها قبل أن تسلّمها، حرصت على أن تطبق عليها قواعد تمنع تقاربها، وتبقي إسرائيل مرجعا لا غنى عنه في تقرير أي مصير ظرفي أو نهائي لهذه الأرض، أو من يعيش عليها، ثم ما لبثت القضية الفلسطينية أن تراجع تصنيفها من همٍّ عربي ملح، ودوليٍّ بدرجة أقل، إلى قضية خاصة للشعب الفلسطيني الذي تعامل معها بدوره بحسب موقعه وتوجهه السياسي ومكان هجرته، ما أحدث تشرذما من نوعٍ آخر، أعطى راحة مضاعفة للسياسي الإسرائيلي في كيفية التعاطي مع هذه القضية التي أصبحت تخضع لوجهات نظرٍ بعضُها متضاربٌ ومتنافس. كانت كل هذه الظروف مقدّمة لانفصال قطاع غزة بسياسته وتحالفاته وطريقة تعامله مع إسرائيل، ومشهد آخر في الضفة الغربية يحاكي التجربة العربية باحتلال رئيسٍ تقليديٍّ كرسي القرار مدة طويلة، أدت إلى ما يشبه التحلل في حركة فتح التي قادت، طوال عقود، العمل الفلسطيني النضالي والسياسي، وأفرزت قادته التاريخيين، لكن أحدهم تحوّل إلى مجرد رئيس عربي آخر.
تزايد النشاط السياسي الفلسطيني باقتراب موعد الانتخابات التشريعية التي نجمت عن آخر جهود تصالحية بين غزة ورام الله، وكان النشاط في الضفة الغربية أكبر، فقد وجدت جهاتٌ فيها تصفية للحسابات، أو مناسبة لدخول السياسة من جديد، ومناسبةً أخرى لتدخل دول عربية على خط السياسة بما يتلاءم مع الشخصية الإقليمية التي تريد إحدى الدول المطبِّعة مع إسرائيل أن تتخذها، فتحوّلت حركة فتح التاريخية إلى ثلاث قوائم، قائمة الرئيس محمود عباس، وأخرى يترأسها ناصر القدوة الذي فصلته "فتح" الشهر الماضي، وهو سياسي مخضرم، وابن شقيقة الزعيم الراحل ياسر عرفات، وتعزّزت القائمة بانضمام الأسير الفلسطيني ذي الحضور الشعبي المحترم، مروان البرغوثي، ودخل محمد دحلان، وهو مفصول عن حركة فتح، عائدا بقائمة ثالثة، ولكنه يحظى بمساندة الإمارات التي تريد أن تعزّز حضورها على شكل قائمة فلسطينية يجلس على رأسها شخصٌ تثق به.
بوجود هذه القوائم، ستنافس "فتح" نفسها، خصوصا في الضفة الغربية، ويمكن أن تنقسم الأصوات على ثلاثة، وما سيحصل عليه كل من القدوة ودحلان سيعتبر مكسبا لهما، فيما سيعدُّ خسارة فادحة للرئيس عباس. وليست هذه القوائم الثلاثة الوحيدة في الضفة الغربية وقطاع غزة، فقد تم تسجيل أكثر من ثلاثين قائمة، سيتم البتّ بأهليتها. ولكن هذه القوائم هي التي تملك تاريخا فتحاويا مشتركا ستتوزّع الأصوات بينها، والفرق الأساسي بينها في طريقة التعامل مع إسرائيل، فالرئيس عبّاس يرغب بلغةٍ تصالحيةٍ، وبالتقارب التدريجي من دون إفراط، فيما تدعو قائمة القدوة إلى حذر أكبر مع شيء من التصعيد، وإنْ عسكريا من دون الوصول إلى موقف حركة حماس، فيما يحمل دحلان أفكار الدول الراعية له، مع بعض التجميل الذي يمكن أن يناسب موقفا فلسطينيا يبحث عن تطبيعٍ يحفظ ماء الوجه. إلى جانب فروقٍ سياسيةٍ تحمل الخلافات طابعا داخليا يتضمن الموقف من عبّاس نفسه، ومن أساليب الحرس القديم، والموقف من هذا الحرس، وذلك كله مرهونٌ بالانتخابات ونتائجها، وتوجه الجمهور الفلسطيني الذي يرغب بالفعل في ممارسة ديمقراطية. ولكن الخوف من تدخل إسرائيلي يجعل العملية الانتخابية كلها تحت خطر التأجيل، بالإضافة إلى خطر آخر، هو خوف القيادة التاريخية على نفسها من سقوطٍ مؤذٍ يجعلها خارج الحسابات السياسية، ما قد يدفعها مرّة أخرى إلى تأجيل الانتخابات أو إلغائها، كما فعلت في مرّات سابقة.